«وبعد أن ألححت علىّ المرة تلو المرة، والكرة بعد الكرة، أن أتولى الحكم، وناشدتني وطنيتي، واستحلفتني حبي لبلادي، من أجل هذا، أنا أقبل الحكم؛ إنقاذاً للموقف منك أنت».. كان هذا خطاب النحاس باشا، أمام الملك بعد قبوله تأليف الوزارة في ٤ فبراير عام ١٩٤٢.
هذا الخطاب، الذي كان أبلغ رد على من ادع، بأن دولة النحاس باشا، جاء على أسنة رماح الإنجليز، وتأكيدًا على موقفه الوطني، فكانت رسالته إلى السفير الإنجليزي بالنص التالي: «لقد كُلفت بمهمة تأليف الوزارة، وقَبلت هذا التكليف الذي صدر من جلالة الملك، بما له من الحقوق الدستورية، وليكن مفهومًا أن الأساس الذي قبلت عليه هذه المهمة، هو أنه لا المعاهدة البريطانية المصرية، ولا مركز مصر كدولة مستقلة ذات سيادة، يسمحان للحليفة بالتدخل في شئون مصر الداخلية، وبخاصة في تأليف الوزارات أو تغييرها».
هكذا كان مصطفى محمد سالم النحاس، زعيم الوفد كما ذكره المؤرخون، الذي كان مستشارًا في إحدى الدوائر القضائية بمحكمة القاهرة، في دائرة كان يرأسها صالح حقي باشا، وأثناء نظر إحدى القضايا، التفت رئيس الدائرة إلى «النحاس» وقال له: «سنصدر حكماً بكذا»، فقال النحاس: «أنا لي رأى آخر».. ولكن حقي نطق بالحكم دون الالتفات إليه.
غضب النحاس، وقال بصوتٍ عالٍ أمام الحاضرين داخل الجلسة موجها كلماته لكاتب الجلسة: «اكتب أنه لم يؤخذ برأيي كمستشار لرئيس الدائرة في هذا الحكم».. وحدثت ضجة كبرى ورفع «حقي باشا» الجلسة، وانتقل إلى غرفة المداولة، وبالفعل تغير الحكم في تلك القضية، ما جعل «حقي» يشكو «النحاس» إلى وزير الحقانية آنذاك سعد زغلول، الذي أعجب بشجاعة «النحاس»، واستدعاه، لتكون المقابلة الأولى بينهما، التي على إثرها أصدر سعد باشا قراراً ليصبح النحاس قاضيًا جزئيًا تكريمًا له وأصبح ساعده الأيمن ورفيق كفاحه وكان ضمن السبع الذين تحدثوا باسم مصر مع سعد باشا.
مواقف دولة الباشا التي ذكرها المؤرخون وقصها الكُتاب كثيرة ولا تُحصى، ولكنها جميعًا مبعثًا للفخر والتباهي، فقد كان رجلًا شجاعًا، ليس بهياب فى الحق، قويًا بالرغم من الطعنات التي تلقاها من أصدقائه قبل أعدائه، ومن القصر قبل الاحتلال، ولكن أقساها على النحاس باشا، كان موقف رفيق دربه مكرم عبيد، والاستجواب الذي قدمه للبرلمان ولم يكتف بهذا، ولكن سطر «الكتاب الأسود»، الذي اتهم فيه زعيم الوفد بالفساد المالي واستغلاله لسلطاته.
النحاس باشا، الذي أجلّه زعماء العالم أمثال غاندي، والذي سماه سعد باشا «سيد الناس» يقع عليه ظلم بيّن، وكأن مقولة «لا كرامة لنبى في وطنه»، تجسدت في شخصه، الذي وعلى امتداد تاريخ الوزارات المصرية منذ نشأتها، وحتى الآن، لم يتول رجل رئاسة مجلس الوزراء بالقدر الذي تولاها به مصطفى النحاس باشا ٧ مرات، وكان أول من أُطلق عليه لقب «دولة الباشا».
لكن شعور النحاس باشا بعد وفاة الزعيم سعد زغلول، أنه فقد ركنه الشديد الذي يأوي إليه، لم يكن خفياً على الجميع، فعاش النحاس بعد وفاة سعد ما يقرب من ٣٨ عاماً، كانت قاسية حدث فيها انقسامات وانشقاقات وهجوم ظالم عليه، حتى جاءت حركة يوليو ٥٢، وكُتبت آخر سطور الظلم في حياة النحاس باشا، فتم اعتقاله ثم تحديد إقامته، وشطب اسمه من كتب التاريخ.
عاش دولة الباشا مخلصاً لوطنه، ووفياً للمبادئ التي وضعها مع سعد باشا ورفاقه، حتى لحق بصديقه في نفس يوم وفاته ٢٣ أغسطس، وكانت جنازته رحمة الله عليه، جنازة مهيبة تليق بعطائه العظيم، تاركًا لنا ميراث لا يقدر بثمن من المواقف الوطنية التي لن تموت ولن تمحى.. رحم الله دولة الباشا فقد عاش زعيمًا ومات زعيمًا.
نائب رئيس حزب الوفد