أصبحت سوريا مسرحًا معقدًا لصراع دموي استمر لعقد من الزمن، تداخلت فيه قوى محلية وإقليمية ودولية، وأعاد تشكيل الخريطة الجغرافية والسياسية للدولة.
ومع كثرة الأطراف المتصارعة وتنوع الشعارات والولاءات، يظل السؤال الأهم: هل كانت الثورة السورية طريقًا للتحرير من حكم بشار الأسد، أم أن الجماعات المسلحة على اختلاف مسمياتها، خاصة التي يقودها أبو محمد الجولاني، احتلت سوريا فعليًا بطريقة أخرى؟
انطلقت الثورة السورية عام 2011 بمطالب مشروعة للحرية والكرامة، ورفض الاستبداد الذي مارسه النظام لعقود طويلة.
لكن، مع استخدام النظام للقوة المفرطة في قمع المظاهرات السلمية، تحولت الثورة إلى صراع مسلح، فتح المجال أمام تدخلات خارجية، وأفسح الفرصة لظهور جماعات مسلحة، بعضها متطرف وبعضها يحظى بدعم إقليمي ودولي.
مع تزايد فوضى السلاح، بدأت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تقع تحت سلطة الجماعات المسلحة التي حملت شعارات التحرير.
هيئة تحرير الشام التي يتزعمها أبو محمد الجولاني (جبهة النصرة سابقًا) هي أبرز تلك الجماعات.
وعلى الرغم من محاولتها إعادة تقديم نفسها كفصيل «معتدل» وقابل للتفاوض، فإنها فرضت سيطرتها بالقوة على جميع مناطق سوريا بقبضة أمنية شديدة، حيث يتم التضييق على المدنيين والمعارضين لسياستها، وهو ما جعل البعض يصفها بأنها نسخة أخرى من الاستبداد، وإن كانت تحمل صبغة دينية.
على مدار السنوات الماضية ظل نظام بشار الأسد وحلفاؤه، خاصة روسيا وإيران، يدعون أنهم يخوضون حربًا ضد الإرهاب لاستعادة «السيادة الوطنية».
لكن هذا «التحرير» جاء على حساب دمار هائل، وتشريد ملايين السوريين، وتدمير البنية التحتية للبلاد.
والأخطر، أن التدخلات الأجنبية جعلت من سوريا ساحة نفوذ، حيث باتت القوى الكبرى (روسيا، أمريكا) والإقليمية (تركيا، إيران) تتقاسم السيطرة على الأراضي السورية.
إذا نظرنا إلى المشهد السوري اليوم، سنجد أن مفهوم «التحرير» يبدو غائبًا تمامًا، فالبلاد التي باتت خاضعة لهيئة تحرير الشام والجماعات المسلحة، بعد هروب بشار الأسد وإنهبار نظامه، أصبحت تحت سلطة الأمر الواقع ولقوانين مشددة لا تختلف عن ممارسات الأنظمة المستبدة.
والآن جميع المناظق التي وضعت الجماعات المسلحة يدها عليها تخضع لسيطرة أمنية صارمة، مع استمرار الاعتقالات والانتهاكات.
والمناطق الخاضعة للنفوذ الخارجي: أصبحت رهينة المصالح الإقليمية والدولية.
يبقى الوضع على الجبهة فيما يتعلق بالصراع مع العدو الإسرائيلي مؤشرا على خطورة الأوضاع واستشراق المستقبل، ففي تطور لافت، توغلت القوات الإسرائيلية في الأراضي السورية، مقتربة من العاصمة دمشق، حيث أصبحت على بُعد 24 كيلومترًا منها، كما سيطرت على قمة جبل الشيخ.
هذا التوغل أثار تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين إسرائيل وبعض الفصائل المسلحة في المنطقة، خاصة «هيئة تحرير الشام» بقيادة أبو محمد الجولاني.
ورغم الشائعات التي تحدثت عن وجود تنسيق بين الجانبين، نفت المعارضة السورية، في بيان، وجود أي اتفاقات مع إسرائيل.
من جانبه، لم يصدر الجولاني أي تصريحات مباشرة حول التوغل الإسرائيلي، مما أثار استغراب المراقبين.
ويرى بعض المحللين أن صمت «هيئة تحرير الشام» قد يكون مرتبطًا برغبتها في الحصول على اعتراف دولي، وبالتالي تتجنب مواجهة مباشرة مع إسرائيل في هذه المرحلة.
في السياق نفسه، أدانت جامعة الدول العربية، بمبادرة مصرية، التوغل الإسرائيلي داخل المنطقة العازلة مع سوريا، واعتبرته انتهاكًا لاتفاق فك الاشتباك المبرم عام 1974. ودعت المجتمع الدولي إلى إلزام إسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية المحتلة.
هذا التوغل الإسرائيلي في سوريا يُعد الأول من نوعه منذ حرب 1973، ويأتي في ظل تغيرات جيوسياسية كبيرة تشهدها المنطقة، مما يفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل التوازنات الإقليمية في ظل هذه التطورات.
باختصار.. يبقى السؤال حول «التحرير» و«الاحتلال» سؤالًا مفتوحًا ومؤلمًا.
لم تتحرر سوريا من النظام كما كان يحلم شعبها في بداية الثورة، وفي الوقت ذاته، وجد السوريون أنفسهم تحت حكم جماعات لا تقل تسلطًا عن النظام، أو تحت سيطرة قوى أجنبية تتنافس على تحقيق مصالحها.
وإلى أن تتوافق القوى السورية على حل سياسي وطني شامل، يبقى السوريون وحدهم الضحية الأكبر، بين «تحرير» مشوه و«احتلال» بأوجه متعددة.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية