في واحدة من أكثر الأزمات السياسية سخونة في تاريخ كوريا الجنوبية، تقف البلاد عند مفترق طرق حاسم، فمحاولة الرئيس يون سوك يول فرض الأحكام العرفية لم تكن مجرد تجاوز قانوني، بل اعتداء صارخ على الديمقراطية، ومحاولة للعودة بالبلاد إلى عصور الاستبداد المظلمة، لكن الشعب الكوري، المدعوم بمؤسساته الراسخة، اختار أن يقاتل، ليؤكد أن الديمقراطية ليست مجرد شعار، بل إرادة أمة لا تُقهر.
وجاء قرار البرلمان الكوري الجنوبي بعزل الرئيس بأغلبية ساحقة كخطوة جريئة ومفصلية، بأصوات 204 نواب مقابل 85، حيث أثبت البرلمان أنه ليس مجرد مؤسسة تشريعية، بل درع يحمي ويصون الديمقراطية من محاولات الالتفاف عليها، فهذا القرار لم يكن مجرد إجراء قانوني، بل تأكيد على أن الديمقراطية في كوريا الجنوبية ليست سلعة للمساومة، وأن السلطة لا يمكن أن تكون مطية لمن يطمع في التحكم بمصير أمة بأكملها.
التصويت جاء في وقت تعالت فيه أصوات الشعب في الشوارع كل ليلة، تطالب بمحاسبة الرئيس وتحقيق العدالة.
مشهد الآلاف الذين خرجوا للتظاهر أكد أن الديمقراطية في كوريا ليست فقط نظام حكم، بل شعور متجذر في وجدان الشعب، الذي يدرك تمامًا أن حقوقه وحرياته ليست قابلة للتفاوض.
وبالتوازي مع تحرك البرلمان، بدأ القضاء الكوري الجنوبي تحقيقاته مع الرئيس يون سوك يول بتهمة الخيانة، وهي جريمة تصل عقوبتها إلى الإعدام. هذا التحرك يعكس قوة المؤسسات القانونية في كوريا، التي لا تتردد في مساءلة ومحاسبة أعلى المسؤولين إذا ما خالفوا الدستور أو تعدوا على حقوق الشعب.
منع الرئيس من مغادرة البلاد كان إشارة واضحة إلى جدية التحقيقات ورفض التهاون مع محاولات إفلاته من العدالة، هذه الخطوة أكدت التزام كوريا الجنوبية بمبدأ أن لا أحد فوق القانون، مهما كانت مكانته أو سلطته.
حزب الرئيس ينقلب عليه
وفي خطوة غير مسبوقة في تاريخ السياسة الكورية، أعلن الحزب الحاكم تخليه عن رئيسه يون سوك يول، متبرئاً من قراراته وسياساته الكارثية، ولم يكتفِ الحزب بإدانة تصرفاته، بل تعهد بشكل قاطع بمنعه من اتخاذ أي قرارات مستقبلية، مما شكل طعنة سياسية غير قابلة للإصلاح.
هذه الخطوة لم تكن مجرد إجراء سياسي، بل صفعة قاسية عرت الرئيس بالكامل، وجعلته يقف وحيداً في مواجهة عاصفة من الغضب الشعبي والتحقيقات القضائية، ليجد نفسه معزولاً تماماً بلا حزب، ولا برلمان، ولا شعب يسانده.
الشعب.. القلب النابض للديمقراطية
الاحتجاجات الشعبية التي ملأت شوارع كوريا الجنوبية لم تكن مجرد رد فعل عابر، بل كانت إعلانًا جماهيريًا عن رفض أي انتكاسة للديمقراطية، في بلد عرف تاريخًا من النضال ضد الديكتاتورية.
لقد أثبت الشعب الكوري أنه الحامي الأول للديمقراطية، وأنه مستعد للوقوف في وجه أي محاولة للعودة إلى عصور القمع والاستبداد.
ورغم الخطوات الإيجابية لعزل الرئيس والتحقيق معه، لا تزال الديمقراطية الكورية تواجه تحديات كبيرة أهمها الانقسامات السياسية داخل الأحزاب، والتهديدات الشعبوية التي تروج لنظريات مؤامرة واهية، تشكل خطرًا على استقرار البلاد.
كما أن خطاب الرئيس الأخير، الذي وصف فيه البرلمان بـ«الوحش» وزعم أن الأحكام العرفية كانت لحماية الديمقراطية، يعكس مدى خطورة الخطابات الشعبوية والاستبدادية، التي قد تستغل الأزمات السياسية والاقتصادية لإضعاف المؤسسات الديمقراطية ومحاولاتها تبرير القمع باسم المصلحة العامة.
يشير ما حدث في كوريا الجنوبية إلى أن الديمقراطية لا تُمنح ولا تُهدى، بل تُنتزع وتُصان، فالأزمات قد تهز الأنظمة، لكنها تكشف أيضاً عن قوتها وصلابتها.
إنها ليست مجرد معركة سياسية، بل انتصار أمة بأكملها على الخوف والقمع، وانتصار لقيم الحرية والعدالة التي لا يمكن لأي طاغية أن ينتزعها.
لقد نجحت كوريا الجنوبية في تقديم درس عالمي لا يُنسى عن قوة الشعوب وإرادتها الصلبة. الرئيس يون سوك يول، الذي تطاول على الديمقراطية بمحاولة فرض الأحكام العرفية، وجد نفسه محاصراً بين قضاء صارم، وبرلمان لا يلين، وشعب صوته أقوى من أي ديكتاتور.
في النهاية، أكدت كوريا الجنوبية أن الطغاة زائلون، لكن إرادة الشعوب خالدة، إنها رسالة لكل من يحاول العبث بالديمقراطية: الشعوب قد تصبر، لكنها لا تنكسر، وحين تنتفض، فإنها تكتب التاريخ بأحرف من نور.
الديمقراطية في كوريا الجنوبية لم تنجُ فقط، بل انتصرت بجدارة، لتظل منارة للأمل والإلهام لكل أمة تبحث عن الحرية.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية