الغارات الجوية «المتواصلة» على شمال غزة، وحرق المرضى أحياء في أسرة المستشفيات، كما حدث لشعبان الدلو. واستهداف الأطفال بطائرات بدون طيار، ثم «الضرب المزدوج»: إرسال ضربة ثانوية لضرب أولئك الذين تجمعوا للمساعدة. وخلق ظروف المجاعة من خلال منع الإمدادات. وإصدار أوامر للفرق الطبية والدفاع المدني بمغادرة مخيم جباليا للاجئين.
إن هذه الاستراتيجيات المتطرفة تتماشى مع النهج الذي يمارس في مختلف أنحاء الأراضي المحتلة، والذي يقوم على إجبار الفلسطينيين على التحرك «طوعاً» من خلال حرق الأرض التي يعيشون عليها.
وتأمين توسع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية من خلال عدم إعطاء الفلسطينيين أي خيار سوى التحرك ــ من خلال الترهيب، وخنق النشاط الاقتصادي من خلال إغلاق مناطق السوق وتزويدها بنقاط التفتيش والجنود، والخداع البيروقراطي الذي يسمح بهدم المنازل وإغلاق المحلات التجارية. وتزداد مدينة الخليل الفلسطينية ارتفاعاً وكثافة، حيث يبني الناس شققاً للانتقال من المنطقة التاريخية القديمة التي يتم تقليص عدد سكانها «طوعاً»، من خلال التدابير التي تجعل المنطقة غير صالحة للعيش.
ويجد الفلسطينيون الذين بقوا في المنطقة أنفسهم محاصرين في مواجهات مع المستوطنين والجنود، ثم يتم وصمهم بالخطر الأمني وقتلهم لتحديهم الخطة.
إن هذا الأمر يتردد بقوة في غزة. وهذا يتفق مع ما يسمى بخطة الجنرالات، وهي اقتراح قدمه عدد من الجنرالات المتقاعدين إلى الحكومة الإسرائيلية في أوائل أكتوبر، يدعو إلى منح الفلسطينيين بضعة أيام لمغادرة شمال غزة، ثم إعلانها منطقة عسكرية وقتل وتجويع من تبقى منهم.
مر أكثر من عام على الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، حاولت إسرائيل جعل ما يحدث في غزة أمر طبيعي أو مقبول. واستمر التطهير العرقي الذي يمارس على سكان غزة. فالمدنيون، بما في ذلك الأطفال، يُقتَلون بطرق لا يمكن أن تشير إلا إلى أنه هجوم عشوائي للقضاء على الفلسطينيين، أو تخويفهم ودفعهم إلى النزوح الجماعي من مناطق الموت والجوع المتزايدة الاتساع. أصبح سكان شمال غزة بالكامل معرضون لخطر الموت.
إن هذه المرحلة الجديدة الصارخة، من الحرب تحمل في طياتها مرحلة مذهلة في قسوتها التي لا يمكن تصورها، والتي يتعين على بقية العالم أن يبتلعها كل صباح. إن كل الانتصارات الخطابية والقانونية التي تحققت خلال العام الماضي، وكل الاحتجاجات والصراخ والإدانات من جانب المنظمات الدولية، لا قيمة لها إذا كان المكان الذي انتهى بنا المطاف إليه الآن هو مكان يحمل فيه الأطفال الفلسطينيون إخوتهم الجرحى لساعات. ومع ذلك، لا يمكن، ولا أحد يستطيع أن يوقفها.
إن ما تواجهه إسرائيل الآن ليس إدراكها أن النظام العالمي معطل، بل إنه يعمل بالضبط كما صمم له. وهذا التصميم تكون فيه الحسابات الأنانية للقوى الإمبريالية وحلفائها هي كل ما يهم.
فالفلسطينيون لا يقعون في مرمى نيران إسرائيل فحسب، بل وأيضاً في مرمى نيران الأنظمة العربية التي استقرت بفضل قربها من الولايات المتحدة التي تطالب بالهدوء عندما يتعلق الأمر بأفعال إسرائيل. وفي مرمى نيران صناعة الأسلحة المربحة للغاية بحيث لا يمكن الحد منها.
وفي مرمى نيران النظام الذي تديره الولايات المتحدة والذي قايض حياة الفلسطينيين من أجل رعاية قوة مهيمنة في المنطقة من شأنها أن تحد من قوة إيران. وفي مرمى نيران حكومة غربية بالكامل على الطراز الوسطي رفضت الحد من أفعال إسرائيل بشكل هادف بينما كانت توبخ المواطنين الذين يهددون بنقل أصواتهم إلى أماكن أخرى.
في غزة، حيث الموت مستمر، والدمار لا يرحم، والنوايا واضحة، لا نستطيع أن نقبل ما يحدث ـ بل إننا لا نستطيع أن نقبل إلا القطيعة والانسحاب وفقدان التوجه. ولا نستطيع أن نتقبل ما يحدث. ومع وصول إسرائيل إلى قمة أخرى مقززة، فإن ما أصبح واضحاً بشكل لا يمكن إنكاره هو أن القوى التي سمحت لكل شيء بالوصول إلى هذا الحد لا يمكن أن نتعامل معها بالعقل.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية