نون لايت

صالح السيد يكتب: رجاء النقاش.. ورحلة مع قافلة الشعراء

إنه الطائر النبيل الذي يلتقط حبات الأصوات الشعرية فيغرسها في التربة الصالحة فتمتد جذورا في الأعماق وترتفع أشجارا سامقة، وظلالا وارفة، فتتزين سماء الشعر العربية برموزها  الكبار، والأمثلة شهيرة : محمود درويش، أحمد عبد المعطي حجازي، سميح القاسم، فدوى طوقان، أحمد فؤاد نجم، وعديد من شعراء الفصحى والعامية، وهو الناقد الحصيف المرهف الذي امتزج في تكوينه قوام الصواب بإشراقة الجمال، وقد تنوعت دراساته النقدية في شتي الأجناس الأدبية: الشعر، الراوية، المسرحية، القصة القصيرة، إلا أن الشعر قد حاز علي النصيب الأوفر من كتاباته، وقد اتصفت شخصيته النقدية في الحياة الثقافية عبر مسيرته الطويلة  بمزية فريدة وهي المزج بين الوضوح المنهجي والإمتاع الجماهيري، علي نحو جعله يحصد اعتراف فريق النقاد، وثقة وإعجاب جموع القراء، وبذا استطاع أن يحقق واحدة من أهم رسالات الخطاب النقدي، في دفع المجتمع نحو محبة الأدب والاهتمام به .

وفي دراسة قيّمة عن «تطور المضمون في القصيدة العربية المعاصرة » الصادرة عن مؤسسة البابطين  يرتحل الناقد الكبير رجاء النقاش مع قافلة الشعر العربية فيرصد ذلك التغير الذي طرأ في مضمون القصيدة العربية المعاصرة، وتسرب في نسيجها الشعري ومن ثم انعكس علي شكلها الفني .

ويمثل عنوان الدراسة مظلة كبرى، إذ أنه متسع وعريض، وتستلزم الحاجة إلي الإحاطة به مهارة نقدية – وهي بالطبع متوفرة في رجاء النقاش –  في القبض علي المفاصل الرئيسية، وتحديد الصوى والعلامات البارزة، فالدراسة هي إجابة شافية علي سؤال هام وضروري: إذا كانت القصيدة العربية المعاصرة قد اختلفت اختلافا جذريا وعميقا عن القصيدة العربية التقليدية القديمة فما مظاهر هذا الاختلاف، أو ما هي الإضافات التي تراكمت في تشكيلها، وساهمت في تطويرها، وفي النهاية جعلت منها بناءً شعريًا  أصيلاً ومغايراً .

ينطلق رجاء النقاش إلي الماضي التاريخي فيرصد حركة ومسيرة القصيدة العربية « القصيدة العربية ظلت خلال ما يزيد علي خمسة قرون متصلة،وهي في حالة جمود وركود وخضوع كامل لتقليد النماذج القديمة في العصر الجاهلي، أو في العصر الإسلامي الأول، أو في العصرين الأموي والعباسي، وخاصة ما يسمى بالعصر العباسي الأول، ثم تفجّرت القصيدة العربية بالتجديد والتغيير والحيوية منذ ظهور البارودي في أواخر القرن الماضي،ولم تتوقف موجات التجديد إلى الآن ، والقصيدة العربية المعاصرة بهذا المعني يمتد عمرها – بموجاتها المختلفة – إلي أكثر من مائة سنة»  كما يشير إلي ثقافة الشاعر العربي التقليدي من حيث المنبع والإطار العام «ثقافة الشاعر التقليدي كانت مقتصرة علي التراث العربي، ولم يكن يعرف أو يهتم بأن يعرف شيئا عن التراث الشعري العالمي، وكان الشاعر التقليدي يهتم بأن يعرف كل ما يستطيع معرفته عن الشعر العربي وحده، في المراحل السابقة علي وجود الشاعر، أما الشعر غير العربي فلم يكن له أثر علي الشاعر العربي التقليدي، ولم يكن هذا الأمر مقتصرا علي شعراء الآداب الأوروبية، ولكنه كان ممتدا إلي الشعر الإسلامي نفسه إذا ما كان مكتوبا في لغات غير اللغة العربية، فنحن علي سبيل المثال لا نجد أي أثر في الشعر العربي التقليدي لشاعرين إسلاميين كبيرين هما «عمر الخيام » و«حافظ الشيرازي»  هكذا شأن الشاعر العربي التقليدي القديم، فقد كانت خريطته الشعرية خريطة عربية خالصة، وما حولها مجهول أو مرفوض».

أما عن الموقع الاجتماعي للشاعر العربي القديم « فقد كان مرتبطا في معظم الأحوال بالطبقة الحاكمة المسيطرة علي شئون الناس والمجتمع ، فإذا اتسعت دائرة الشاعر قليلا فقد كان يرتبط بالأوساط الثقافية المحيطة بالطبقات الحاكمة والمسيطرة، ولم يفلت من هذا الوضع شاعر مهم في الأدب العربي منذ أقدم العصور حتى عصر شوقي، والذين نأوا بأنفسهم عن هذا الوضع كانوا أقلية مثل :« أبو العلاء المعري» و«ابن المعتز » وبعض الشعراء الصوفيين » (3)

وبعد الإطلالة التاريخية علي المناخ العام للقصيدة العربية التقليدية القديمة يستهل الناقد الأدبي رجاء النقاش بحثه عن تطور المضمون في القصيدة العربية المعاصرة بتوضيح المفاهيم التي قام عليها البحث ، فهو يعمد إلي التفرقة بين موضوع ومضمون القصيدة « فالموضوع هو عنوان القصيدة والإطار العام الذي تدور فيه ، أما المضمون فهو النسيج الأساسي الذي تتكون منه «بنية» القصيدة نفسها ، فإذا قلنا عن قصيدة ما أن موضوعها هو « الحب» مثلا ، فإن المضمون يكون هو « الكيفية » التي عالج بها الشاعر « موضوعه»: هل عالجه علاجا واقعيا أو رومانسيا أو رمزيا أو صوفيا أو ما شئت من ألوان العلاج الأخرى التي يتفرق بينها الشعراء حسب ثقافتهم وموهبتهم وموقفهم من الحياة » (4)

كما يري أن التغير في مضمون القصيدة العربية المعاصرة كان استجابة  لضرورات روحية وعقلية كثيرة ، فالشاعر العربي المعاصر قد أنشأ لنفسه أو أنشأت له ظروف النهضة خريطة شعرية أخرى ممتدة بامتداد أقطار العالم كله، ونستطيع أن نتلمس تأثير شعراء مثل : دانتي وملتن وبوشكين وراسين وهوارس وإليوت وويتمان وإزراباوند وبودلير ورامبو وفرلين ولامرتين وجيته وشيللر علي كثير من الشعراء المعاصرين .

كما يؤكد علي أن المفهوم العام للثقافة نفسها قد اتسع وطرأت عليه تغيرات جوهرية كثيرة ، ففي مجال الأدب والفن ظهرت فنون جديدة علي الساحة العربية لم يكن لها أدني تأثير علي الشاعر العربي القديم ومن هذه الفنون المسرح والرواية والقصة القصيرة ،وكذا  الفن التشكيلي الذي كان مُحرما أو شبه محرم في ثقافتنا العربية القديمة .

إضافة إلي تغير موقع وموقف الشاعر العربي المعاصر فارتباطه الأساسي – علي عكس الشاعر العربي التقليدي القديم – ليس بالحكام ولا بالطبقة السائدة بل بالجمهور الواسع المتعلم المثقف .

أما عن مظاهر وأشكال التطور في مضمون القصيدة العربية المعاصرة فقد أوجزها الناقد الكبير رجاء النقاش في مجموعة من العناصر وهي :

– الاستفادة من التراث الشعبي مثل : قصص ألف ليلة وليلة،  والملاحم الشعبية ( عنترة ، أبو زيد الهلالي ، سيف بن ذي يزن ) فقد دخلت في مضمون القصيدة العربية المعاصرة وأصبحت عنصرا أساسيا من عناصر هذا المضمون، واستفادة الشاعر من هذا التراث لم تكن مجرد استفادة شكلية تتوقف عند حدود الألفاظ ، بل امتدت إلي نسيج المضمون الشعري  للقصيدة

– كما يشير إلي عنصر واسع التأثير في مضمون القصيدة العربية المعاصرة ، وقد جعلت منه نبعا غزيرا للمضمون الشعري وهو الحياة اليومية بأحداثها البسيطة وشخصياتها العادية ، وهو ما كان يسميه الدكتور محمد مندور« فتات الحياة » ويعطي أمثلة « للشاعر خليل مطران » في قصيدته « العالم الصغير مرآة العالم الكبير» والشاعر  صلاح عبد الصبور في قصيدته « الحزن » والشاعرة نازك الملائكة في قصيدتها «مر القطار » و الشاعر محمد الفيتوري في قصيدته «تحت المطر » هو بذلك يضع المقارنة بين الشاعر العربي المعاصر والشاعر العربي  التقليدي الذي كان ينّصب تركيزه على تصوير  الشخصيات المتميزة والمواقف المتميزة والمشاعر المتميزة ، ولا يقترب من الحياة اليومية والإنسان العادي وما فيهما من شعر خاص

– الاستخدام الموسع للأسطورة الشرقية : منها ماهو فرعوني مثل « إيزيس وأوزوريس » وما هو آشوري وبابلي وفينيقي مثل : «عشتار » و«تموز» و« طائر الفينيق» ، والأسطورة الغربية مثل : « سيزيف » و«فاوست » و «بروميثيوس » وغيرها  وكذلك القصص الدينية في القرآن الكريم والكتاب المقدس .

–  سيادة الروح الاعترافية لدي الشاعر المعاصر أي أنه كثيرا ما يعترف بضعفه وخطاياه ويعرضها بلا تحفظ وكذلك الجرأة في معالجة الرغبات الحقيقة للإنسان والتعبير الصريح عنها

– استفادت القصيدة العربية في تطور مضمونها من نهضة المرأة العربية ، وهي نهضة ساعدت علي ظهور الشعر النسائي علي نطاق واسع ، وتبع ذلك ظهور الصراحة في التعبير الشعري عند الشاعرات العربيات الموهوبات ، وكذلك أدت حركات التحرر والاستقلال إلي بزوغ النزعة الوطنية، أي نزعة الدفاع عن الوطن والقومية وقد أصبحت أساسية في القصيدة العربية المعاصرة، يضاف إلي ذلك ما يمكن أن نسميه النزعة الإنسانية وهي ثمرة طبيعية لاتساع ثقافة الشاعر المعاصر .

–  كما يبرز توسع الشاعر المعاصر فيما يمكن تسميته بالمضمون الفلسفي ، القائم علي التأمل في قضايا الحياة والإنسان ، والتحرر من القيود المفروضة علي العقل العربي ، وقد كان للمضمون الفلسفي مكان كبير في بعض نماذج الشعر العربي ، وخاصة عند أبي العلاء ولكن الشاعر العربي المعاصر توسع كثيرا في هذا المجال مثل الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدته « الطلاسم » وكذلك للعقاد في قصيدته « ترجمة شيطان».

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى