نون والقلم

صالح السيد يكتب: الراوي البطل في رواية الأرض  (1)

تمثل رواية  “الأرض”  لعبد الرحمن الشرقاوي علامة  بارزة  في تاريخ الراوية المصرية ،وهي تنتمي إلى  الراوية الواقعية التي تتصف بالتشخيص أي إعادة  إنتاج الواقع الاجتماعي بشكل من الأشكال ، علي أن  الراوي في  الرواية  هو نموذج الراوي البطل القابع خلف قضية ( حق الفلاحين في الحصول علي نصيب وافر من المياه لزراعة أراضيهم)  وينعكس هذا علي البناء العام  لها  حيث يتصف بطابع التماسك والانسجام (2) ، المحافظة علي الحبكة ، احتفاظ الشخصية بعمقها النفسي والاجتماعي  ، تعيين حدود الزمان والمكان , كما تتجلي في ظواهر فنية ؛ الميل إلى وصف العادات ، الميل إلى التبرير النفسي والأيدلوجي(3) وتترابط حلقات القص في نسيج الحكاية ، وتحتل النهاية مكانة هامة وأساسية لأنها تحدد منطق هذا الترابط ، والراوي هنا منحاز ينحاز لقيم فيدافع عنها ويتصدى لآخرى فيجابهها وبالتالي فإن الانحياز هو في معناه العميق إقامة بنية عالم يحيل علي مرجع له ، واقعي  ، ويتم ذلك أيضا علي مستوى اللغة فيميل إلى استخدام لغة مجازية تعتمد على التصوير النفسي ونقل الأحاسيس والمشاعر.

 فعلى لسان ” صفية ” الشخصية المدخل التي ارتكز عليها الراوي في نسج خيوط حكايته تتجسد الأرض ليست باعتبارها قيمة اقتصادية فحسب، إنما كونها المصدر الوحيد للوجود المادي والمعنوي للشخصيات  ” … واستمرت تقول إن الذي لا يملك في القرية أرضا لا يملك فيها شيئا علي الإطلاق حتي الشرف ” ويتردد هذا المعني أيضا من خلال شخصية ” عبد الهادي ” فخر القرية وبطلها الشعبي  أثناء طوفانه بالأرض  ” إن هذه الأرض الواسعة التي تمتد إلى جواره لتملؤه إحساسا بالثبات والرسوخ والشرف .. لم يكن يري منها شيئا في الليل ومع ذلك فقد كان يعرفها .. يعرفها جيدا ، يعرف وجهها وقنواتها وكل مسلك فيها ..  ” (5) وعندما تلوح أزمة المياه في الأفق وينقسم الفلاحون إلي فريقين ، فريق يدافع عن الأرض وآخر يتخاذل ويستكين ، يتشبث  “عبد الهادي ”  بمنطق الفريق الأول ويلوم أحد دعاة الفريق الثاني ” ولقد همس عبد الهادي لنفسه ذات ليلة قبل النوم لو أن للشيخ ( الشناوي )  أرضا يختلط عرقه بترابها .. ولو أنه رآها تتشقق من الجفاف تحت عينيه بعد أن شقي فيها .. ورأي أذرته الصغيرة الغضة تذوي كأطفال يموتون .. لو عرف الشيخ الشناوي كل هذا .. لسكت  “(6)

وبعد القبض علي الرجال  الذين قطعوا الجسر الذي يفصل بين النهر والحقول  لري الزروع العطشي للحياة ويساقوا للسجن لم يؤثر ذلك  في عزيمة الآخرين لقد ظلت الأرض هي محور الاهتمام والعناية القصوي ” لقد قُبض بالأمس علي كثير من الرجال ، ومع ذلك ذهب الاخرون إلي الحقول لأن الأرض لا تستطيع ان تنتظر الذين ذهبوا .. ” (7)

 وبعد خروج الرجال من السجن يندفع ” دياب  ”  – الشخصية التي تمثل الأرض حياة تجربته الإنسانية كلها – محموما إلي الحقل وقد تملكه شعور عميق بالفقد ورغبة أصيلة في إستعادة كيانه ومقدرته  بملامسة أرضه  ” ثم انحني علي الأرض ونفسه تزخر بالحنين ، والإحساس بالمقدرة ، فأمسك قطعة من الطين الجاف ، وفركها بين يدية ، وترك ترابها يتناثر بين اصابعه والمشاعر المبهمة تغمر منه الجوانح إلي الحلق وتهتز منه الأعصاب ” (8)

الشخصيات:

بينما يشير العنوان في  الرواية  إلي بطولة المكان نجد  الراوي يبدأها   بطريقة العرض المباشر أي بالشخصيات ( ” صفية ” ويستتبع ذلك ظهور بقية  الشخصيات الأخرى وهذا يعني أن العنصر الأساس في منح المكان هذه الأهمية نابع من وجود الأشخاص فيه ، أشخاص متحدين ، تفاعلهم مع المكان يمنحه فرادته وهويته ، فيمنحهم هويتهم وثقافتهم ونسق قيمهم (14)      

تنقسم الشخصيات بحسب موقفها من القضية إلي فريقين :  فريق يستميت في المقاومة والدفاع حتي النهاية وفريق آخر يستكين أو يتخاذل أو يساوم ،  ويتجلي انحياز الراوي للفريق الأول بطرق كيفية (أسماء – صفات خلقية- صفات نفسية) وبطرق كمية (تواتر ظهور الشخصيات  في النص السردي) وبطرق وظيفيّة إذ تؤدي هذه الشخصيات  وظيفة العامل الذي يتطلب مساعدين ومناوئين، كما  أن الراوي يلجأ إلي نوع من التحفيز الواقعي ( مشاركة محمد أبو سويلم والشيخ حسونة في دعم ثورة 1919 ومناهضة حكومة الشعب برئاسة الطاغية صدقي باشا  ) وهنا تظهر هذه الشخصيات ليست باعتبارها تدافع عن قضاياها المحلية فقط وإنما  أيضا  قضاياها القومية والوطنية  .

علي إننا سوف نركز علي تأثير القضية /المشكلة  علي العلاقات بين الشخصيات سواء أكانت سلبية أم إيجابية في إطار الفعل والرؤية والهدف

لقد أدت المشكلة إلي نزوع فردي للدفاع عن المصلحة الخاصة ، وقد دارت معركة دموية بين عبد الهادي من جهة ودياب من جهة أخري ، ثم اتسعت الدائرة  لتشمل جموع من الفلاحين والفلاحات  في الحقول ، علي أن الراوي لا يصف المعركة باعتبارها نتاج عداء أصيل بين الشخصيات ولكنها حالة طارئة أوجدها حرص غريزي لديهم في الحفاظ علي حياة الأرض ” كانت طاقات هائلة من الضيق تنفجر من كل نفس ، وتضرب كل من يتعرض لحرمان الأرض من الماء .. وباسم الدفاع عن حياة الأرض – عن الحياة نفسها – مضي كل فلاح يضرب ويضرب بلا توقف كل من يريد أن يناقش حق الأرض في الماء .. كان الرجال يضربون بعضهم بلا حساب وبلا مراعاة ، كأنهم لم يعرفوا بعضهم أبدا ، ولم يحبوا بعضهم من قبل ، وكأنما قد أصبح من المستحيل أن يتحدثوا إلى بعضهم مرة أخري . كان من الممكن أن يصنع كل واحد بجسد أخيه أي شىء أن يقذف به إلى أعماق الماء .. أن يقطع منه .. وحتي أن يأكله . والنساء أيضا كن يفعلن نفس الأشياء ، ويحتدمن بنفس القسوة في المعركة،وشجت النساء رؤوس بعض الرجال بالحجارة وسال الدم ، واختلط علي الأجساد ، وسال في عرق كل واحد دم من عروق أخيه . ” (16)

علي إنهم سرعان ما تيقظ وعيهم مع عبارة  الشيخ يوسف “.. حتموتوا بعض عشان اللميه .. طب أمال اشطروا علي الحكومة  ” واستعادت ذاكرتهم حقيقة المشكلة وأسبابها  فتوجهوا جميعهم ،  كل الرجال الذين شاركوا في عراك بعضهم إلي الجسر الذي يفصل عنهم الماء وبقوة الذود عن الحق واسترداده ” كانت الفؤوس تضرب أرض الجسر في قوة ونشاط .. وتشق قناة كبيرة في عرض الجسر بين النهر والحقول .. وتدفق الماء من القناة الكبيرة الجديدة إلي القناة الطويلة في بطن الجسر مارا بكل الحقول ، وهلل الفلاحون وهم يرون الماء يتدفق في موجات صغيرة سريعة مثقلة بالطمي ” (18)  وربما أدي ذلك إلي زيادة ثقتهم بأنفسهم فتكرر نفس المشهد في  التخلص من الحديد الذي تم القاؤه  في أرض محمد أبو سويلم لشق الطريق الزارعي عبر أرضه علي أن الراوي عمد إلي وصف روح البطولة الشعبية التي تلبست الفلاحين أثناء قيامهم بذلك ”  واقترب الرجال تحت شعاع النجوم من حقل محمد أبو سويلم (…) مضوا في خطوات ثابتة ، تتلاحق أنفاسهم والعزم في صدورهم أكيد قوي .. أقوي من الألم (….) وحمل كل رجل قطعة فوق ظهره وأخذ يترنح تحتها قليلا في الظلام ، وما أن يقذفها في الترعة حتي ينصب قامته ، وهو يشعر بمثل القوة التي يتخيلها دائما حين يسمع قصة ” أبو زيد الهلإلي ” (19)

المصادر والمراجع :

1 – انشائية الخطاب في الراوية العربية الحديثة ، دكتور محمد الباردي

2 – الراوي الموقع والشكل : يمني العيد

3- انشائية الخطاب في الراوية العربية الحديثة ، دكتور محمد الباردي

4 – رواية الأرض .

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى