نون والقلم

نور الشريف: أستاذٌ لا «يؤستِذ»

لا تقدّم الحياة هدايا مجانية، لكنها تمِنُّ علينا بأناس رائعين نتعلم منهم ما لا تستطيعه مدارس أو جامعات. أناس ذاقوا طعم النجاح وخبِروا دروبه وامتلكوا مفاتيحه. في حياتي المهنية تسنى لي لقاء مبدعين كبار تعلمت منهم الكثير، وأجمل المعلمين مَن يعلمك بغير قصد أو بغير «أستذة»، تكتسب منه عفو الخاطر بلا تكلّف ولا استعداد، وفي مقدمة هؤلاء يحضر اسم نور الشريف (محمد جابر). رجلٌ متى عرفته أحببته، لا كفنانٍ فحسب بل كإنسان يتمتع بكثير من خصال جعلته قريباً إلى قلوب الناس سواء عرفوه من قرب أو من خلال الشاشة.

قد لا تضيف الكتابة جديداً عن قيمته الفنية وموهبته الاستثنائية وأهمية ما أعطاه للمسرح والسينما والتلفزيون. ثمة كتبٌ بكاملها تناولت تجربته الرائدة، وعشرات الدراسات والمقالات، لذا نكتب عنه إنساناً قدّم مفهوماً مختلفاً للنجومية وللشهرة وما يرتبط بهما أو يتفرع عنهما من سلوكيات وتصرفات وأفعال تنم عن المستوى الثقافي/ الأخلاقي لصاحبهما.

عرفتُه منذ قرابة ثلاثة عقود من الزمن، يومها جاء بيروت لتصوير فيلم عاطف الطيب «ناجي العلي»، كان جميلاً ومدهشاً مجيء نجم بمكانة نور الشريف إلى بيروت وهي لمّا تزل منكوبةً بالسلاح والمسلحين وبحروب الإخوة الأعداء أواخر الثمانينات من القرن الماضي، نعم كان الأمر جميلاً لكنه لم يكن غريباً على ممثل مثقف مثله ينحاز دائماً إلى ضفة المقهورين والمظلومين والمضطهدين، وما أداؤه شخصية الفنان الشهيد ناجي العلي سوى تعبير عن هذا الانحياز الذي تبدَّى وتجلى في كثير من مواقفه وأعماله مثل «سواق الأوتوبيس» و «دماء على الإسفلت» و «زمن حاتم زهران» وسواها.

كنت يومها صحافياً طازج الحبر والتجربة، ذهبت إليه متهيباً هالة نجوميةٍ تسبق صاحبها فإذ بي في حضرة أستاذ لا «يؤستِذ»، أي يُعلِّمك من دون أن يشعرك بأنه يفعل. أستاذ في الطيبة والدماثة والتواضع وفي الخبرة والوعي والمخزون الإنساني الثمين، حواره متعة خالصة والإصغاء إليه مكسبٌ وباب من أبواب المعرفة. من يومها تكررت اللقاءات والحوارات على الشاشة أمام الملأ، أو في أروقة المؤتمرات والمنتديات حيث النقاش الحقيقي العميق البلا رتوش ولا قفازات يدور في تلك الأروقة لا في المنصات الرسمية والقاعات المجهزة، وكان آخر لقاءاتنا في الشارقة بدعوة مشكورة من مركزها الإعلامي حيث قدمته والنجم الآخر جمال سليمان في حوار رمضاني حول الدراما والفن وعلاقتهما بقضايا الساعة، وفي تلك اللقاءات كلها كان نور الشريف يتميز بتواضعه وابتعاده عن التكلف والتصنع (وهي سمات طبعت أداءه التمثيلي أيضاً) وقربه من الجميع وسرعة بديهته وشغفه بخوض النقاشات الفكرية حول مختلف الموضوعات والعناوين.

تتعارف ونور الشريف للمرة الأولى فتعرفه إلى الأبد. بمعنى آخر: إذا «ظبطت» الكيمياء بينكما فسوف يقابلك بالحرارة نفسها ولو بعد عشر سنوات على اللقاء الأول، ومتى عرفته فإنك لا تعرف فقط الفنان والمثقف الموسوعي وصاحب الموقف من مختلف قضايا العرب وفي المقدمة فلسطين التي أهداها أكثر من عمل، بل تعرف الأخ الأكبر، وكم له أفضال على أجيال من الفنانين قدّمهم في أطلالاتٍ أولى، وتعرف الزوج والعاشق الرومانسي والأب الحنون، والضاحك للنكتة حتى تبلغ قهقهته فرحها الأقصى، ولئن كانت سنواته الأخيرة شابها بعض الإرباك بفعل الانفصال الزوجي ثم العودة فالمرض الفتّاك والشائعات التي لم تراعِ حرمةً حتى لِمرضه، فإن صورة نور وبوسي تظل صورة عاشقين جميلين تحت سقف عائلة وجد فيها محمد جابر ربما ما كان يفتقده طفلاً يتيماً يبحث دوماً عن صورة أبيه.

غاب نور الشريف، غاب يتيم السيدة زينب، نقصت روحي وردة وأصيبت ذاكرتي بثقب أسود آخر، لكني تعلمت من نور وأمثاله من المبدعين الحقيقيين أن في هذه الدنيا ما يستحق الابتسامة، ولو في جوف دمعة.

نقلا عن صحيفة الحياة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى