اخترنا لكنون والقلم

ربيع الأكراد خريف الشرق الأوسط

الحديث عن العلاقة بين الاستخبارات الإسرائيلية وزعماء في إقليم كردستان ليس جديداً. ولم يكن مستغرباً احتفال يهود في شوارع تل أبيب بانتصار بارزاني في الاستفتاء على الانفصال عن العراق، ولا رفع الأعلام الإسرائيلية في أربيل، ولا تشبيه بارزاني الابن ببن غوريون. العلاقة بين الطرفين تعود إلى ما قبل إعلان الدولة العبرية، عندما كانت الحركة الصهيونية تنشط في الشرق الأوسط وتتصل بزعماء الأقليات العرقية والدينية لتحريضها على المطالبة بالاستقلال في دويلات، بمساعدة الدولتين المستعمرتين فرنسا وبريطانيا لتبرير مطالبة اليهود بوطن قومي على أساس ديني. وتطورت العلاقات بين الطرفين طوال عشرات السنين، توجها الملا مصطفى بارزاني بزيارة تل أبيب عام 1968 حين التقى أبا إيبان ووزير دفاعه موشيه دايان، وعقد اتفاقات مع قادة الموساد، ولم يكن ذلك غريباً على الرجل الذي كان يشبّه نفسه بشحاد أعمى على باب الجامع لا يرى من يتصدق عليه ولا يهمه من يكون.

تطورت العلاقات بين الطرفين منذ ذلك التاريخ، ولعبت الاستخبارات الإيرانية، أيام الشاه، والتركية دوراً كبيراً في تعزيزها وتسليح الأكراد وتدريبهم لمواجهة المد القومي العروبي وإضعاف بغداد. وأصبح وجود «الخبراء» الإسرائيليين مسألة طبيعية في شمال العراق، حيث «البيشمركة». وجاء في كتاب شلومو «نكديمون «انهيار الآمال الكردية – الإسرائيلية» أن بارزاني الأب احتفل مع الإسرائيليين في جبال كردستان باحتلالهم القدس».

تغيرت إيران بعد الخميني، وتغير العراق بعد الاحتلال الأميركي، ووجدت إسرائيل فرصتها الذهبية «لتثأر من بابل»، فكثّفت وجودها في الإقليم الكردي، بعدما استقل عملياً عن بغداد بمساعدة واشنطن والحكام الجدد الذين تقاسموا الحكم و «الغنائم» والمناصب مع الأكراد. وأصبح لدى بارزاني مستشارون من كل الجنسيات يستثمرون في السياسة، ويخططون معه لإبقاء بغداد ضعيفة. كما وجدوا فرصة في الربيع العربي وبروز «داعش» لنشر المزيد من الفوضى والدمار، فأعادوا طرح مشروع جو بايدن الذي اقترح تقسيم العراق إلى ثلاث دول، حتى قبل أن يصبح نائباً للرئيس. وبدأ بارزاني يستولي على «الأراضي المتنازع عليها»، وهي في معظمها خليط من الأقليات الدينية والعرقية فهجر منهم من هجر، وأقام مراكز لقواته، ورفع شعاره المعروف: لن نتخلى عن الأراضي التي حررت بالدم، مختلقاً قضية يجب أن تحل بالحوار، بناء على المادة 140 من الدستور. ولتأكيد ضم هذه المناطق إلى إقليمه أصرّ على إجراء الاستفتاء فيها، علماً أن سكانها المهجرين لم يعودوا إليها بعد، وهي شبه خالية.

ولكن لماذا الاستفتاء الآن؟ في ظن بارزاني أن الظروف الحالية لن تتكرر. في الإقليم لا تستطيع القوى المناهضة له الوقوف ضده لأنها ستبدو في نظر الشعب خائنة. العراق منهمك في محاربة «داعش» وهو أضعف من أن يواجه الانفصال بالقوة، فضلاً عن أن الولايات المتحدة التي ترعى حكومته لن تسمح له بذلك. إيران شبه معزولة في محيطها العربي. وأميركا جاهزة لمواجهتها عسكرياً إذا اخترقت الحدود، فضلاً عن أنها لا تريد إثارة أكرادها ومواجهتهم في مدنها المتاخمة للعراق، وربما امتدت المواجهات إلى المدن الأخرى. تركيا رجب طيب أردوغان هي الأخرى تخشى أكرادها الذين يخوضون حرباً ضد أنقرة منذ عام 1984، ولديها علاقات قوية مع بارزاني الذي استقبله الرئيس قبل عامين، وعلم كردستان إلى جانبه، وجال معه في المنطقة الكردية طمعاً في تهدئتها وأصواتها الانتخابية، إضافة إلى غضّ نظره عن تهريب النفط عبر الحدود، ودفاعه المستمر عنه ومعاملته أربيل عاصمة، ليس لكردستان وحدها بل للعراق كله، متجاهلاً كل احتجاجات بغداد. تبقى سورية الغارقة في دماء أبنائها ولا تستطيع حتى الاعتراض على الخطوة.

أما إسرائيل التي لا تنفك تسعى إلى زعزعة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط فوجدت في الخطوة الكردية فرصة تاريخية، خصوصاً بعدما بدأ «داعش» ينهار وبدأ العراق يتخلص من إرهابه. وهي فرصة تنتهزها كي تشكل مع الإقليم الكردي قاعدة عند الحدود الإيرانية والعراقية إذا خطر لحكام بغداد يوماً إشهار العداء لها. في هذا السياق جاءت احتفالاتها بانتصار مؤيدي الانفصال، وهي حكماً لن تكتفي بالاحتفال.

ربيع الأكراد خريف الشرق الأوسط .

نقلا عن صحيفة الحياة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى