اخترنا لكنون والقلم

القتل اللذيذ

حتى لو أصبحت للإرهابيين دولة وأرض يسيطرون عليها، وشعب يحكمونه، وسلطة يمارسونها، وعملة يتداولونها، فإن الإرهاب سيظل وسيلتهم في التعامل مع الآخر، والقتل الذي يمارسونه بمنتهى اللذة سيبقى لغتهم في التخاطب مع أعدائهم. الإرهابيون لا يعبّرون عن قلقهم إزاء موقف ما، ولا يحتجون إذا ما صدر تصريح من مسؤول في دولة ضدهم، ولا يسحبون السفراء أو يغلقون السفارات أو يعلقون العلاقات إذا أقدمت دولة أخرى على تصرف يغضبهم أو ينال منهم. الإرهابيون الآن يتفاخرون بإرهابهم، ولا يتركون أجهزة الأمن في الدول الأخرى حائرة لمدة طويلة، فهم يفجرون ثم يتبنون التفجير بل يشرحون كيف فجروا أو فخخوا أو قتلوا.

لم يعد الإرهاب «وسطياً» مخفياً، أو يتستر خلف حديث هادئ أو سلوك رصين، بل أصبح علنياً صريحاً مباشراً فظاً عنيفاً متحدياً متبجحاً. فارق كبير بين تحليل حدث ما وتفسير الظروف والأسباب التي أدت إليه وبين تبريره أو اختلاق الذرائع لمنفذيه والضالعين فيه. فما بالك إذا كان الحدث فاجعة كتلك التي ضربت فرنسا قبل يومين، وعمل إرهابي دموي أودى بحياة عشرات الآمنين والمسالمين والعزل.

لم تكن ردود الفعل التي صدرت عن بعضهم وركزت أن على الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً أن تشرب من الكأس نفسه الذي يشرب منه العرب كل يوم لائقة أو في محلها، ناهيك عن أنها لا تطرح حلولاً لكارثة الإرهاب الذي تسرطن في العالم وتخطى الحدود وأصبح لا يهدد فقط نظاماً حاكماً هنا أو هناك، أو شعباً فقيراً أو جائعاً أو دولة بعينها تحكم بالديموقراطية أو الديكتاتورية، بل صار ناراً عصت على المطفئين.

المحصلة أن أي نظام أمني قابل للإختراق، وبقدر الابتكارات والاختراعات والاستحكامات الأمنية الحديثة بقدر ما يطور الإرهابيون أنفسهم من دون حاجة إلى تكنولوجيا معقدة أو تقنيات فائقة السرعة، إذ لا يحتاج الأمر إلا إلى أشخاص مُقبلين على الموت. وأصبح ثابتاً أن استخدام الإرهاب من جانب دول وأجهزة استخبارات أسهم في استفحاله وانتشاره وتشعبه وتسلله من مكان إلى آخر ومن قارة إلى أخرى، وأن الضغوط التي تمارسها دول كبرى لتحقق مصالحها على حساب دول وشعوب أخرى منحت الإرهاب أرضاً خصبة يستغلها لتجنيد عناصر جديدة، وتعبئة عقول بأفكار ومعتقدات خاطئة جعلت أعداداً غير قليلة من الشبان يفقدون الأمل في الدنيا، فيتجهون إلى من يعطيهم صك دخول الجنة في الآخرة!

من يتصور أن استخدامه الإرهابيين أو التحالف معهم ينجيه من شرهم، هو مخطئ ويكفيه مراجعة تحالفات التنظيمات الإرهابية مع جهات ودول خلال العقود الثلاثة الماضية ليدرك أن أكثر الشعوب التي دفعت الثمن فادحاً هي تلك التي تحالفت دولها مع الإرهاب لفترة أو مرحلة، وتصورت أنها صارت في منأى عنه، ثم وجدت في مراحل لاحقة أن الإرهابيين وصلوا إليها في عقر دارها، واستغلوا ما كانوا حصلوا عليه من تسهيلات ليضربوا ويفجروا ويقتلوا.

كانت الدول الكبرى تستخدم الإرهاب وتدعم الإرهابيين لتستنزف أنظمة أو تضغط على دول، ولعبت بأوراق الحريات وحقوق الإنسان لتحد من قدرة الأنظمة على مواجهة الإرهابيين، في ظل اعتقاد سيطر على مسؤولي الأجهزة الاستخباراتية في الدول الكبرى مفاده أن التنظيمات الإرهابية قُطرية وتعمل داخل دولها وتعادي أنظمتها وشعبها، وأقصى طموحها قلب الحكم في دولها، من دون أن تدري أن تنظيم «القاعدة» لم يكن مجرد اسم لتنظيم، وإنما فكرة عن نوايا مؤسسيه في الانطلاق بعناصر التنظيم بعيداً من مركز تأسيسه في أفغانستان إلى كل بلاد العالم، وأن كل التنظيمات الصغيرة داخل الأقطار صارت فروعاً له.

هكذا كان «القاعدة» واليوم صار «داعش». وبينما كان الأول تجمعاً لمتطرفين عرب حلوا ضيوفاً على الأفغان، تجاوز الثاني إقليمية التأسيس والنشاط، واستقطب عناصر من دول غربية وصار دولياً، واستغل أخطاء الغرب وخطايا العرب في بسط نفوذه وسلطته وتواجده على الأرض في ثلاث دول عربية على الأقل، وبرع في استخدام الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ليجذب انتباه الشباب معدومي الأمل أو الطامحين إلى الانتقام من مجتمعاتهم، واستغل كل تناقض حادث داخل كل بلد عربي، ليهدمه ويجلس على أنقاضه ليمارس القتل بلذة واستمتاع وفخر.

سيظل الخطر قائماً على الجميع. و «داعش» لا يحتاج حاملات طائرات أو صواريخ عابرة للقارات أو بوارج عملاقة لتنقل جيوشه وقواته من مكان إلى آخر، فثمانية من عناصره روّعوا فرنسا وقلبوا العالم، وإثنان من أفراده أبكيا لبنان وأهله، وبعض من بقاياه يضربون في مصر على مدى ثلاث سنوات، وبعد كل كارثة من كوارثه نجد العالم يتفق على مواجهته بإجراءات وسياسات تساعد على مزيد من انتشاره!

نقلًا عن جريدة الحياة اللندنية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى