اخترنا لكنون والقلم

الاستفتاء الكردي.. والرهانات الخطأ

تحدّى مسعود البرزاني الجميع.. تحدّى معارضيه ومنافسيه الأكراد الرافضين لإجراء استفتاء الانفصال عن العراق، وتحدّى بغداد والقوى الإقليمية: إيران وتركيا على وجه الخصوص، وتحدّى المجتمع الدولي ممثلاً في قرار صادر بالإجماع عن مجلس الأمن.. تحدّى كل هؤلاء، وقرّر المضي قدماً في إجراء الاستفتاء، رافضاً كل عروض الوساطة والحوار. كان رهانه، وكما أعلنه، على «الأمر الواقع». قرّر البرزاني أن يجري الاستفتاء ويحوّل رغبة الانفصال عن العراق وإقامة دولة في كردستان العراق، أمراً واقعاً ليجبر الجميع على أن يتفاوضوا معه بشروطه هو، وليس بشروط غيره.
ونجح البرزاني في أولى خطوات الرهان، لكن تبقى خطوات كثيرة جداً كي يتمكن من تحويل الحلم إلى واقع، وهنا عليه أن يعي أن استذكاره لما حدث من تحويل الحلم إلى واقع ابتداءً من عام 1992 يصعب القياس عليه الآن، فالتحوّل من التمرّد على سلطة صدام حسين عقب حرب تحرير الكويت عام 1991 إلى تأسيس الفيدرالية الكردية في شمالي العراق كانت له ظروفه وكانت له أطرافه الإقليمية والدولية، بل والمحلية العراقية، التي اتفقت جميعها على هدف واحد هو النيل من سلطة صدام حسين عبر الفيدرالية أو الكيان الكردي، وهذا ليس موجوداً الآن.
الفارق شاسع بين التحوّل من حال التمرّد على الدولة، بدعم إقليمي ودولي له ظروفه الخاصة المرتبطة بظروف حرب تحرير الكويت والاستنفار الدولي القوي ضد جريمة احتلال الكويت، وبين التحوّل من الفيدرالية الكردية، التي قامت ابتداءً من عام 1992 كأمر واقع فرضه الأمريكيون والبريطانيون على «عراق صدام حسين»، إلى دولة كردية مستقلة ترفضها، علناً، معظم، إن لم تكن كل الأطراف الإقليمية والدولية التي ساهمت في قيام الفيدرالية الكردية، وبالذات دول الجوار الأربع المحيطة بالكيان الكردي الذي لم يولد بعد: إيران وتركيا والعراق وسوريا. فهذه الدول بدأت جزئياً، تتجه لفرض حصار كلي جوّي وبرّي حول الكيان الكردي الذي لن يستطيع أن يعيش دون تواصل مع هذه الأطراف، أياً كان الدعم الآخر الذي يراهن عليه أو يتوقّعه وينتظره.
وإذا كان البرزاني قد رفض التفاوض مع حكومة بغداد قبل إجراء الاستفتاء، اعتقاداً منه أنه، بعد إجراء الاستفتاء والحصول على أغلبية شعبية كبيرة مؤيدة للانفصال عن العراق، سيكون بمقدوره التفاوض من موقع القوة والحصول على «نعم» عراقية على كل المطالب التي سبق أن رفضتها بغداد، فإنه مخطئ، لأن حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية استبق إجراء الاستفتاء واعتبره «غير دستوري»، وأعلن رفضه التفاوض مع حكومة الإقليم على نتيجته، في حين أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتهم مسعود البرزاني ب «الخيانة»، وحذّر من أن أكراد العراق «سيتضورون جوعاً عندما تمنع تركيا شاحناتها من عبور الحدود».
كانت مطالب البرزاني التي حملها وفد كردي إلى العاصمة العراقية منتصف شهر أغسطس/ آب الماضي، تتضمن ستة شروط للقبول بتأجيل إجراء الاستفتاء هي، أولاً، أن تسدد الحكومة المركزية موازنات الإقليم من عام 2013 إلى 2017، وثانياً، أن تسدد حكومة بغداد رواتب مقاتلي البيشمركة، وثالثاً، الإسراع في تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي بشكل حاسم على أن تكون المناطق المتنازع عليها من حصة إقليم كردستان، ورابعاً، أن تكون المفاوضات بين أربيل وبغداد برعاية أممية وبرعاية منها، وخامساً، أن يقرّ البرلمان العراقي قانوناً يمنح أربيل الحق في تصدير النفط والغاز، ويخوِّلها بالتصرف في عائداته، مع الحفاظ على حقها في امتلاك الثروات النفطية في الإقليم، وسادساً، يؤجل الاستفتاء لمدة عامين، وإذا أخلَّت بغداد في تنفيذ المطالب، فسيكون من حق البرزاني إعلان الدولة الكردية.
رفضت بغداد هذه المطالب، وهذا ما كان يريده ويراهن عليه البرزاني، كي يمضي في مشروع الاستفتاء، اعتقاداً أنه سيكون بمقدوره أن يحصل بالاستفتاء على ما عجز عن الحصول عليه بدونه، وهذا رهان خاطئ لأن قرارات البرلمان العراقي التي صدرت بحق الاستفتاء هي قرارات رفض قاطع وعدم اعتراف، ومن ثم سيكون على البرزاني وحكومته أن يواجهوا هم أيضاً «الأمر الواقع» الذي لم يفكروا فيه، أو لم يتوقّعوه، فهم تصوروا أن الحدث سوف يدعم نفسه بنفسه، وأن تجربة فرض فيدرالية كردية عام 1992 يمكن أن تتكرر بفرض دولة كردية عام 2017.
على الجانب الآخر يخطئ العراقيون ويخطئ حلفاؤهم الإيرانيون والأتراك في اعتقادهم أن بمقدورهم إنهاء «الحلم الكردستاني» بالقوة العسكرية، فاندلاع صراع عراقي- كردي يبقى حلماً ومشروعاً لأهم الأطراف الداعمة لخيار الدولة الكردية، وبالتحديد الكيان الصهيوني، الذي يرى في تفجّر صراع دامي عراقي- كردي، هو الخيار البديل لنفاد مفعول الصراع العراقي مع «داعش» لإبقاء العراق رهناً لنزيف الدماء، كما أن هذه الدماء التي سوف تنزف من الطرفين العراقي والكردي ستكون بمثابة «ماء الحياة»، لفرض مخطط التفتيت وإعادة التقسيم العرقي والطائفي ليس فقط للعراق بل ولجواره الإقليمي وكثير من الدول المحيطة.
يبقى خيار التفاعل الإيجابي مع الواقع الجديد. فالحصار المحكم حول الدولة الكردية يمكن أن يفجّر الصراعات الداخلية ويعجّل بها ويفرض التغيير من الداخل الكردي، لكن أي نجاح سيبقى مرهوناً بإنهاء الحكم الطائفي والتأسيس لمشروع وطني ديمقراطي قائم على أساس مبدأ المواطنة وليس المحاصصة الطائفية دون أي تمييز عرقي أو ديني أو طائفي، وأن يتحرر القرار الوطني العراقي من أي تسلّط أو هيمنة خارجية، عندها يمكن الرهان على مستقبل أفضل بديل لعراق فيدرالي- ديمقراطي، وعندها سيكون هذا هو الرهان الصحيح لكل العراقيين، سواء كانوا عرباً أو أكراداً أو باقي مكونات الوطن العراقي، بدلاً عن الرهانات الخاطئة.

نقلا عن صحيفة الخليج

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى