تلقت جامعة الدول العربية ومجمل النظام العربي كله صدمة هائلة يبدو أنها لم تكن متوقعة أو لم تكن في الحسبان، جراء الاعتذار المغربي المفاجئ والمتأخر عن استضافة مؤتمر القمة العربي المقبل في دورته السابعة والعشرين التي كان من المقرر أن تعقد يومي 6 و7 أبريل/ نيسان القادم بمدينة مراكش.
الصدمة التي أحدثها الاعتذار المغربي هي في الواقع صدمتان، الأولى صدمة إجرائية وهي الأهون وتتعلق بضيق الوقت لاختيار مكان الانعقاد البديل الذي قد ترشح له موريتانيا وذلك حسب الحروف الأبجدية طبقاً لملحق ميثاق جامعة الدول العربية، وهي بالفعل من يترأس القمة الآن دورياً على نحو ما حدث في الأيام الماضية عندما ترأست موريتانيا أعمال منتدى «إفريقيا 2016» الذي عقد بمدينة شرم الشيخ المغربية، أو قد تعقد القمة في دولة المقر أي في مصر، وقد ألمح إلى الاحتمالين أحمد بن حلي نائب الأمين العام لجامعة الدول العربية للشؤون السياسية. أما الصدمة الأخرى، وهي الأهم والأصعب فهي الصدمة الموضوعية إن جازت التسمية، نظراً لأن الاعتذار المغربي جاء متضمناً بأسباب موضوعية وصادمة للنظام العربي كله.
فقد تلقى الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور نبيل العربي اتصالاً هاتفياً من وزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي صلاح مزوار يبلغه فيه اعتذار المملكة المغربية عن استضافة القمة العربية، لكن الاعتذار الأساسي جاء في بيان رسمي صادر عن وزارة الشؤون الخارجية، وجاء فيه أنه بتعليمات من العاهل المغربي محمد السادس، أبلغ صلاح مزوار جامعة الدول العربية بقرار الاعتذار، بناء على مشاورات أجريت مع عدد من الدول العربية الشقيقة، وبعد تفكير واعٍ ومسؤول، وأنه «نظراً للتحديات التي يواجهها العالم العربي اليوم، فإن القمة العربية لا يمكن أن تشكل غاية في حد ذاتها، أو أن تتحول إلى مجرد اجتماع مناسباتي، وأن الظروف الموضوعية لا تتوفر لعقد قمة عربية ناجحة، قادرة على اتخاذ قرارات في مستوى ما يقتضيه الوضع، وتستجيب لتطلعات الشعوب العربية».
البيان المغربي لم يكتف بذلك لكن شاء أن يكون أكثر صراحة وجدية لذلك قرر أن يسجل رسمياً أنه «أمام غياب قرارات مهمة ومبادرات ملموسة يمكن عرضها على قادة الدول العربية، فإن هذه القمة ستكون مجرد مناسبة للمصادقة على توصيات عادية، وإلقاء خطب تعطي الانطباع الخاطئ بالوحدة والتضامن بين دول العالم العربي». كما أكد البيان أن «العالم العربي يمر بمرحلة عصيبة، بل إنها ساعة الصدق والحقيقة، التي لا يمكن فيها لقادة الدول العربية الاكتفاء بمجرد القيام، مرة أخرى، بالتشخيص المرير لواقع الانقسامات والخلافات الذي يعيشه العالم العربي، دون تقديم إجابات جماعية حاسمة وحازمة، لمواجهة هذا الوضع، سواء في العراق أو في اليمن أو سوريا، التي تزداد أزماتها تعقيداً بسبب كثرة المناورات والأجندات الإقليمية والدولية، كما لا يمكنهم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للشعوب العربية، أو الاقتصار على دور المتفرج، الذي لا حول له ولا قوة، على المآسي التي تمس المواطن العربي في صميمه».
بعد هذا التشخيص المر والصريح جاء القرار المغربي ليقول إن «المغرب لا تريد أن تعقد قمة بين ظهرانيه دون أن تسهم في تقديم قيمة مضافة في سياق الدفاع عن قضية العرب والمسلمين الأولى، ألا وهي قضية فلسطين والقدس الشريف، في وقت يتواصل فيه الاستيطان «الإسرائيلي» فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتنتهك فيه الحرمات، ويتزايد فيه عدد القتلى والسجناء الفلسطينيين» وأن المملكة المغربية «تتطلع إلى عقد قمة للصحوة العربية، ولتجديد العمل العربي المشترك والتضامني باعتباره السبيل الوحيد لإعادة الأمل للشعوب العربية».
بهذا الموقف وضع المغرب قيادة النظام العربي، الذي لم تعد له قيادة بالمعنى الموضوعي للقيادة، أمام أحد خيارين، إما إلغاء أو إرجاء انعقاد القمة لحين تستطيع جامعة الدول العربية وقيادة النظام العربي التجاوب مع مضامين الخطاب السياسي المغربي وامتلاك أجندة عربية للصحوة والنهوض وتجديد الأمل ومواجهة الأزمات والمشاكل العربية بمواقف عربية موحدة وقوية قادرة على تقديم الحلول لهذه الأزمات والمشاكل وتنفيذها، وإما المبادرة بطرح العجز والقصور العربي جانباً، واستعادة القدرة على المبادرة والإعداد لقمة قادرة على تجاوز كل سلبيات وعثرات القمة السابقة التي عقدت في العام الماضي بمدينة شرم الشيخ المصرية وكانت شاهدة على أن العمل العربي المشترك وصل إلى مرحلة غير مسبوقة من التدني والعجز عن الفعل وتباين الرؤى وعمق الخلافات.
فقد كشفت القمة الدورية السادسة والعشرون تلك أن النظام العربي لم يستطع الإفاقة من صدمة موجة الثورات أو الانتفاضات العربية على الرغم من مرور خمسة أعوام على ذلك الحدث الهائل، فلم يقدم النظام في تلك القمة رؤية مستقبلية لمواجهة التحديات وتجديد الوظائف وتطوير هيكلياته، بل إنه لم يستطع امتلاك قدرات حمائية من تداعيات تلك الثورات على تماسك الدولة الوطنية العربية التي أخذت تواجه تحدي التفكيك والانفراط بفعل عوامل داخلية بالأساس، وبفعل ضغوط واختراقات خارجية، أدت في مجملها إلى بروز خطر الاستقطاب الطائفي والاحتراب الأهلي، وتداعي الأولويات. وجاء البيان الختامي لتلك القمة شاهداً على استفحال ظاهرتي الانقسام والعجز العربيين. الانقسام في الرؤى والمواقف لدرجة تجاوز الثوابت وكل الخطوط الحمر العربية، والعجز عن مواجهة التحديات لدرجة تقزم الأدوار العربية أمام استفحال وتغول أدوار القوى الإقليمية الكبرى الثلاث: الكيان الصهيوني وإيران وتركيا التي أخذت تصول وتجول حسب أهوائها في تمزيق أواصر الخصوصية العربية، والقيام بالأدوار التي كان يجب أن يقوم بها العرب دفاعاً عن مصالحهم وأمنهم الذي أخذ يتبعثر ويتداعى.
لم يجد القادة العرب في تلك القمة شيئاً يقدمونه لأمة تتداعى مكانتها وقدراتها غير بعض العبارات الركيكة الخالية من أي قدرة إجرائية على فعل شيء له معنى، الأمر الذي جعل شأن الحاضر العربي ومستقبله رهناً للإرادة الفردية لمن يستطيع، أو لمن ينوي الاستطاعة من الدول، وهي كلها قدرات لا تقاس بالعبث الذي تقوم به القوى الإقليمية على الأرض العربية بعد أن فقد العرب «البوصلة» التي كانت تحكم أداء أدوارهم وجعلهم قابلين بالاستقطاب الطائفي المفروض وانفراط التوحد حول قضيتهم القومية المركزية «فلسطين» على النحو الذي شهد به موشى ارينز وزير الدفاع الصهيوني الأسبق في قوله بأن «الجبهة المعادية لإسرائيل، التي استمرت 60 سنة، تتفكك اليوم.
موشى ارينز الذي كان يخاطب العقل «الإسرائيلي» لم يأت باستنتاجه ذلك من فراغ بل من إدراك بأن العداء العربي ل«إسرائيل» كان عاملاً موحداً للعرب، وأن العرب امتلكوا وحدتهم عندما توحدوا حول القضية الفلسطينية، وأن بروز الصراعات الداخلية بين المكونات الطائفية والقومية بالدول العربية أدى إلى تداعي أولوية ومركزية القضية الفلسطينية في النظام العربي، ومع هذا التداعي بدأ الانفراط العربي.
إذا لم ندرك هذا الواقع الأليم، وإذا لم ندرك أن الانقسام العربي والعجز عن مواجهة التحديات يقودان إلى انفراط كامل للنظام العربي فلن تكون لدينا القدرات على حل الأزمات ولن يبقى للنظام العربي ما يبرر بقاءه أمام تداعي مرتكزاته والانصراف العربي نحو انشغالات وصراعات تدفعهم دفعاً نحو التورط في تأسيس النظام البديل الذي يستهدف بالأساس هويتهم ووحدتهم ومستقبلهم، وهذا هو فحوى الإنذار المغربي. –