نون والقلم

المسألة الليبية ودول الطوق العربي

تثير «المسألة الليبية» اهتماماً متزايد النطاق على المستوى الدولي. ففي ظل بروز معالم حرب باردة جديدة بين دول الأطلسي وروسيا، وفي وقت يزداد فيه ميل موسكو إلى استخدام النفط كأداة للتأثير في السياسة الأوروبية بغرض حماية المصالح الاستراتيجية الروسية، فإن مصلحة الحلف الأطلسي، كما يراها بعض زعمائه مثل الأمين العام السابق للحلف أندرس راسموسن، تتطلب تعزيز دوره في ليبيا. فالنفط الليبي هو البديل الأفضل والأرخص والأقرب عن صادرات النفط الروسية إلى أوروبا. فضلاً عن الحوافز النفطية، فقد أدت التطورات الأمنية التي ألمت بليبيا خلال السنوات الماضية هي الأخرى إلى تحويلها إلى نقطة استقطاب للاهتمام الدولي. وبين هذه التطورات احتل ولوج «داعش» الساحة الليبية المركز الأول منها.
إن تنظيم «داعش» الإرهابي يتضاعف ويتوسع بسرعة بعد أن تمكن من احتلال قطعة أرض في وسط ليبيا. وقطعة الأرض هذه ليست واسعة ولكنها كافية لأن يتمركز فيها عدد متنام من المقاتلين وصل مؤخراً إلى خمسة آلاف، حسب إحصاءات البنتاغون الأمريكي. وهذا التنظيم يعتبر الوحيد من فروع «داعش» خارج العراق وسوريا الذي تمكن من الاستيلاء على الأرض ومن ثم التحكم بنقطة في منتصف البلاد، وعلى مقربة من خطوط المواصلات البحرية إلى القارة الأوروبية. كذلك للتنظيم ولغيره من الجماعات الإرهابية المرشحة للانضمام إليه مستقبلاً ما يقارب الاثني عشر مخيماً تدريبياً على مقربة من الحدود المصرية. ويخشى الكثيرون من المعنيين بالأمن الإفريقي أن ينتشر «داعش» في القارة كما انتشر في المسرح السوري-العراقي.
هذه المخاوف دفعت مسؤولي الأطلسي إلى تعزيز نشاطاتهم من أجل التوصل إلى حل المسألة الليبية. وحقق الحلف بعض النجاح خلال صيف العام السابق مثل إقناع قسم من القيادات الليبية بالتوقيع على اتفاقية الصخيرات وبتشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة. وتبع هذه الاتفاقية انعقاد مؤتمر روما الذي ضم 23 دولة معنية بالمسألة الليبية، وخصص للبحث في مواجهة خطر «داعش». ولقد توجت هذه النشاطات بتشكيل حكومة «الوفاق الوطني الليبية» برعاية مبعوث الأمم المتحدة وبمساندة الحلف الأطلسي. أحيطت هذه الخطوات بآمال كبيرة، ولكنها وصلت إلى طريق مسدود عندما انتقل المتفاوضون إلى البحث في شيطان التفاصيل ما جعل برلمان طبرق المعترف به دولياً يعلن رفضه الموافقة على الاتفاق واستطراداً على تشكيل الحكومة.
بصرف النظر عن الأسباب المباشرة لموقف برلمان طبرق، فإنه يمكن الاستنتاج بأن عملية السلام الليبي-الليبي التي قادها الحلف الأطلسي بالتعاون مع أطراف دولية وإقليمية لم تفلح في خلق مناخ ثقة كاف بين الجماعات المتقاتلة في ليبيا. فمن المفروض أن يتم التلازم، في هذه العملية بين المسارين الأمني والسياسي. أي أنه مقابل كل تنازل سياسي يقوم به فريق من الفرقاء، ينبغي أن تطبق إجراءات أمنية تشعر هذا الفريق بالأمان، وأن الفريق الذي سوف يشذ عن هذا الطريق ويواصل استخدام السلاح بقصد الاستيلاء على السلطة وحرمان المواطنين العاديين من أمنهم وحقوقهم سوف يعاقب بحزم. فمن هي تلك الجهة التي تحمي المواطنين والناشطين السياسيين الذين يلتزمون جادة العمل الديمقراطي من أذى الميليشيات المسلحة التي تصر على سلوك طريق العنف؟
أشارت بعض التوقعات إلى أن الحلف الأطلسي يستعد للاضطلاع بهذا الدور وإلى أن ثمة عملية يجري الإعداد لها لحماية العملية السياسية في ليبيا من ضغوط الميليشيات والجماعات الإرهابية. ويكمن وراء هذه الشائعات شعور لدى أوساط أطلسية أن الدبلوماسية إذا لم تترافق مع الضغط العسكري، لا تحقق نتائج حاسمة. ولكن هذه الأوساط تعرف أيضاً أن الضغط العسكري إذا اقتصر على القصف الجوي والبحري وعلى العمليات الخاصة وحدها فلن يؤدي إلى نتائج فعالة. إن الضغط العسكري الحاسم يحتاج إلى قوات برية تكون مستعدة لإلقاء ثقلها ضد العدو، وأن تفوقه عدداً وتجهيزاً وتدريباً واندفاعاً. رغم ذلك فقد أكد كل من جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، ولوران فابيوس، بصفته وزيراً لخارجية فرنسا أبان مؤتمر روما، أنه لا توجد أية خطة من هذا القبيل.
إن هذا الشرط الأخير للتدخل العسكري البري الأطلسي غير متوافر، حيث توجد معارضة قوية حالياً في دول الأطلسي الرئيسية لإرسال قوات برية بغرض شن الحروب أو للاشتراك فيها ضد الجماعات الإرهابية أو ضد حكومات أخرى.
إن هذا الواقع لا ينطبق على سائر المنظمات الإقليمية الأخرى، فالاتحاد الإفريقي يرسل بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة مثل هذه القوات البرية إلى الخارج. وسبق لجامعة الدول العربية أن أرسلت مراراً قوات برية نظامية عربية إلى خارج دولها. ولقد دعا وزراء الخارجية العرب إلى إنشاء قوة عربية مشتركة تكون جاهزة للتدخل السريع استجابة للحاجات الاستراتيجية العربية ومتطلبات الأمن الدولي. وإذا تمت الموافقة على هذا المقترح فإنه يوفر خلفية مناسبة للتدخل العربي المشترك في ليبيا بقصد تخليصها من أخطار الحرب والاستبداد والإرهاب.
إن التدخل العربي المشترك في ليبيا، سواء كان عن طريق الدبلوماسية أو الحرب، يحتاج إلى تفاهم بين مصر والجزائر وكلاهما له حدود مشتركة مع ليبيا ‘ ويمكنه التأثير بصورة مباشرة في أحوالها. كما أن مصر والجزائر هما من القوى الإقليمية الرئيسية التي تستطيع الاضطلاع بأدوار فعالة تتجاوز أراضيها. فضلاً عما سبق فإن للبلدين تاريخاً مشتركاً من التعاون الوثيق بغرض خدمة الأهداف العربية والإقليمية المشتركة ‘ كما شهدنا في حرب عام 1973 على سبيل المثال. غير أن تجديد التعاون بين البلدين بغرض تأسيس القوة العربية المشتركة وإنقاذ ليبيا من أخطار الإرهاب، يتطلب بعض الجهد للتغلب على توترات مستجدة أثرت في العلاقات الجزائرية-المصرية. ولقد اتخذت هذه التوترات طابعاً سلبياً في بعض الحالات، حيث إنها أطلقت مشاعر عداء شعبوي ومستعر بين الشعبين دون أن تكون له مسببات حقيقية. وهذا ما يوحي بإمكان معالجتها واستبدال هذه المشاهد بنمط حكيم وإيجابي من العلاقات، يسهل العمل في إطاره من أجل حل حقيقي للمعضلة الليبية. ولعل المدخل الأفضل لإيجاد هذا الحل يتوافر في تشكيل إطار دائم لمتابعتها يتكوّن من «دول الطوق العربي» أي من الجزائر ومصر وتونس المجاورة لليبيا، كممثل لجامعة الدول العربية. وتستطيع تونس أن تلعب في هذا المحور الثلاثي دوراً في توطيد التقارب المصري-الجزائري، مضافاً إليها دول الجوار الإفريقي ممثلة بتشاد والنيجر، ودول الاتحاد الأوروبي ممثلة بإيطاليا. إن الأمن العربي والإفريقي والأوروبي يتطلب تعاوناً سريعاً ومركزاً ليس لإنقاذ ليبيا فحسب من حالها الراهن، وهذه مهمة عاجلة ذات أبعاد إنسانية وقومية، وإنما لإبعاد الأقاليم الدولية الثلاثة من شرور الإرهاب الدولي أيضاً.

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى