نون والقلم

لبنان.. بين اللامركزية والفيدرالية

كل من يتابع اعتصامات المجتمع الأهلي في بيروت وتحذيرات النقابات المهنية من الأسوأ في لبنان، لا بد أن يستنتج أن الأحزاب اللبنانية، كما الحكومة اللبنانية، في وادٍ.. والشارع اللبناني في وادٍ آخر.
ومن يعتبر أن لبنان يمر اليوم بأسوأ أيامه – بعد أن تضافرت «الروائح والفضائح» على تنغيص عيش اللبنانيين، بل وتعريضهم لمخاطر صحية – يفاجأ دومًا بأن «ما خفي أعظم»، فمسلسل انهيار مؤسسات الدولة متواصل منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، ولا يبدو أنه سيتوقف طالما أن الحرب قائمة وإنْ بوسائل أخرى.
لا يكفي أن يشفع في لبنان عدم انزلاقه إلى مستويات الفوضى الشاملة أو درك الحروب السافرة في دول الجوار ليعتبر وضعه مستقرًا. واللافت في الآونة الأخيرة أن الخطاب السياسي لبعض الأقطاب اللبنانيين بدأ يستعين بالمصطلحات العسكرية وبالتهديد السافر لخصومهم وكأنهم يمهدون، نفسيًا، للانتقال إلى مرحلة عنف.
لا جدال في أن الخلل الفاضح في موازين القوى الميليشيوية في الداخل يشكل رادعًا «ميدانيًا» لعدم تطور الخلافات السياسية إلى مواجهات أمنية في وقت يبدو فيه أن حسابات بعض القوى الإقليمية والدولية ما زالت تصب في خانة الحفاظ على استقرار لبنان الهش بانتظار اتضاح صورة خريطة الشرق الأوسط الجديد.
مع ذلك، لو أن الشرخ القائم – والمتسع كما يبدو – بين المجتمع السياسي والمجتمع الأهلي قائم في غير لبنان، لأفرز ثورة اجتماعية في الدول المركزية، ونقلة انتخابية نوعية في الدول الديمقراطية تفسح في المجال لإعادة ترتيب البيت الداخلي وفق أولويات المرحلة، وضخ دم جديد في عروق النظام.
أما لبنان فهو بمنأى عن هذه الاحتمالات طالما أن فيدراليته المذهبية ونظامه الانتخابي يضمنان اجترار طبقته السياسية، جينيًا وذهنيًا، جيلاً بعد جيل. ولو جاز اختصار وضع لبنان الحالي «بجملة مفيدة» لربما كانت: دولة منكوبة بجيرانها، منكوبة بأحزابها ومنكوبة بزعاماتها المتخاصمة.. فأين المخرج من هذه الحال؟ وأي مخرج إذا لم يكن في مصلحة الممسكين بزمام النظام تغييره من الداخل، ولا قدرة لمجتمعه الأهلي على مقارعته من الخارج.
يُنسب إلى الرئيس الفرنسي الراحل، شارل ديغول، قوله في أواخر أيامه في قصر الإليزيه: كيف يمكن حكم بلد ينتج خمسمائة نوع من الجبنة؟
لو قيض له أن يكون رئيسًا للبنان لربما قال: كيف يمكن حكم بلد يضم ثماني عشرة طائفة دينية ويزدحم بمئات السياسيين من أَكَلة الجبنة؟
ولكن بقدر ما كان الرئيس شهاب ناجحًا في وصف علة لبنان كان مقصرًا في معالجتها.
واليوم، بعد أكثر من نصف قرن على عهده، قد تكمن بارقة أمل ضعيف في تحويل لبنان من دولة فاشلة إلى دولة قابلة للحياة، وذلك فيما يقترحه البعض من مؤتمر تأسيسي يعيد صياغة النظام السياسي وتحديثه في إطار الممكن. ولكن «الممكن» في هذا السياق لا بد أن يأخذ في الحسبان وجود ثماني عشرة طائفة حريصة، كل الحرص، على مواقعها السياسية ومكتسباتها الإدارية.. علما بأن أي تحديث جدي للنظام اللبناني لا بد أن يبدأ بإزالة «الأبارتايد» المذهبية بين اللبنانيين ومساواتهم، دستوريًا، بالحقوق والواجبات كائنة ما كانت هويتهم الطائفية.
ولكن في زمن تطغى فيه الذهنية «الداعشية» على ما عداها من أنظمة سياسية حضارية في الشرق الأوسط، أصبحت أولوية المرحلة تحويل لبنان إلى ملاذ آمن لكل شرائحه الدينية وتياراته الفكرية والحفاظ على تعددية مجتمعه.
للوهلة الأولى تبدو الفيدرالية الإطار الأمثل لتحقيق هذه النقلة النوعية في النظام اللبناني. ولكن الفيدرالية تعبير مرذول في القاموس السياسي اللبناني رغم قابليتها لتحويل لبنان مما هو واقعيًا فيدرالية طوائف إلى فيدرالية مناطق تضمن حق أكثريتها في إدارة شؤونها الداخلية وفي الوقت نفسه حصص أقلياتها المذهبية في السلطة.
وإلى أن يعيد المنظرون السياسيون الاعتبار إلى صيغة الفيدرالية، لا بأس من البدء بتطبيقها تحت عنوان «اللامركزية الإدارية الموسعة» – تورية أخرى سيعتاد اللبنانيون عليها إن روّج لها السياسيون.

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى