انتشر فى الآونة الأخيرة تعبير (أسرار دولة هيكل العميقة) في زمن ما بعد حكم الإخوان في مصر، بين مناخات الفنون والآداب والسياسة، والحرب المعلنة ما بين طه حسين والأزهر، بسبب كتابه (في الشعر الجاهلي)، أحد أهم وثائق التفكير الحر العربية في العصر الحديث، ظهر (الأستاذ) وهو لقب اكتسبه فيما بعد وحرص عليه الصحفي الشاب محمد حسنين هيكل، الذي رأى النور في الريف المصري في العام 1923، وفي عزّ اشتداد الصراع ما بين الديوان الملكي والمندوب السامي البريطاني، بعد انتقال السلطة إلى الملك فاروق، الشاب أيضا، فكانت مصر تعيش فوران الشباب، باندفاعه وحماسه وبأخطائه أيضا، وكانت الصحافة وقتها ملعب الجميع، ولا بد من القول إن في مصر كانت تشهد نهضة كبرى.
رأى هيكل أن هذا العالم مليء بالإثارة، وأنه ليس مقدرا له أن يعمل كوالده في تجارة الحبوب، فكما يقول ابن عمه بربري هيكل: جدي حامد هو عم الأستاذ وهو الذي أصر على تعليمه بعد أن أراد أبوه حسنين أن يعمل معه في تجارة الحبوب، لكن والدي وقف ضدّه وقال إنه (هيعلمه من جنيه لألف، وخلي بالك الجنيه وقتها كان يشتري بلد بحالها) ومن هذا التحدي (من جنيه لألف) ذهب هيكل في صنعة الصحافة، محترفا قواعدها، ومتجاوزا فيها النكد الوجداني الذي رآه في صحافيي ذلك العصر، فانقطع مع أسرته في حي باب الشعرية في القاهرة في المنزل رقم 174 في شارع الجيش، وعمل في جريدة (الإيجبشيان جازيت) منذ سنة 1943م وعمره ما يزال عشرين سنة، محررا تحت التمرين في قسم الحوادث، ثم في القسم البرلماني واختاره رئيس تحريرها، لكي يشارك في تغطية بعض معارك الحرب العالمية الثانية.
وانتقل سريعا في العام 1949 إلى مجلة (آخر ساعة) حيث عمل مع الصحفي الوحيد الذي يعترف بفضله عليه، محمد التابعي، ثم غادر المجلة إلى (أخبار اليوم) واستثمر مهمته كمراسل متجوّل ينتقل بين البلدان، في صقل تجربة الحكايات لديه، مسافرا من أوروبا الشرقية إلى بلدان إفريقيا جنوبا وحتى كوريا شرقا ثم عاد إلى (آخر ساعة) رئيسا لتحريرها، في العام 1951، العام الذي كانت تحتدم فيه الأمور وتقترب من تحولاتها الكبرى في خلع الملك فاروق الأول وتولي الجيش سدّة الحكم، وعاد بعد رحلة سريعة إلى إيران استغرقت شهرا واحدا فقط بكتاب مثير حمل عنوان (إيران فوق بركان)، ولا يُعرف على وجه التحديد كيف بدأت العلاقة ما بين هيكل وجمال عبدالناصر، ولكن مما لا شكّ فيه أن مغامرة هيكل في الاقتراب من الحدث، كان لها الدور الكبير في توطيد تلك العلاقة، بالإضافة إلى الشكل الذي يقدّم هيكل به نفسه للآخرين، وتوطدت علاقته بالبكباشي جمال عبدالناصر، وصار ظلّه ومستشاره ومخلبه الاستراتيجي والإعلامي ومدبّر العلاقات العامة التي لا يستطيع عبدالناصر تنفيذها برجالات دولة رسميين.
هيكل وجمال عبد الناصر
وكان لتلك الفلسفة التي آمن بها هيكل ونظّر لها عبدالناصر أن تهدم الحياة الديمقراطية في مصر عاما بعد عام، وفي (فلسفة الثورة) التي لم تكن لتسويق عبدالناصر بين أحضان جمهور معظمه كان مغيبا جاهلا أو منفيا أو مكموم الفم، بقدر ما كانت لتسويقه في الغرب وبين يدي من يقرأ وينظر ويتتبع الهمسات، فبالرغم من الكثير من التنظير للثورة والأوضاع المصرية بين جنبات الكتاب، إلا أن أخطر رسائله كانت في المقطع الذي يقول فيه جمال (عبدالناصر – هيكل) في كتابه فلسفة الثورة (… ومنذ أشهر قليلة قرأت مقالات كتبها عني ضابط اسرائيلي اسمه يردهان كوهين ونشرتها له جريدة “جويشن أوبزرفر”، وفي هذه المقالات روى الضابط اليهودي كيف التقى بي أثناء مباحثات واتصالات عن الهدنة وقال: لقد كان الموضوع الذي يطرقه جمال عبدالناصر معي دائما هو كفاح إسرائيل ضد الإنجليز، وكيف نظمنا حركة مقاومتنا السرية لهم في فلسطين وكيف استطعنا أن نجند الرأي العام في العالم وراءنا في كفاحنا ضدهم) فكانت الرسالة استلهام عبدالناصر للكفاح الإسرائيلي في سبيل إنجاح قضية اليهود في فلسطين، وإعجابه بهذا النضال الطويل!
كان هيكل يطير من عاصمة إلى أخرى، مروّجا لجمال عبدالناصر، وناصحا بفتح (القنوات السرية) معه، متحدثا باسمه، دون حرج، ولم يكن ليتوقع أحد أن شخصية عبد الناصر الطاغية، كانت لتتقبل هذا التمادي من هيكل لولا أن للأخير دورا كان يؤديه، بالغ الأهمية، وشديد الخطورة، ويدخل في الاعتبارات الاستراتيجية العليا.
صناعة الدكتاتور.. ودور هيكل
ان هيكل أول من حوّل جريدة الأهرام المصرية، التي تعدّ من أعرق الصحف العربية والتي أسست سنة 1875 على يد اللبنانيين بشارة وسليم تقلا، من منبر حرّ إلى ناطق باسم السلطة الحاكمة، وتبعتها الصحف المصرية الأخرى، وفي العام 1956 صنع هيكل من حرب غير متكافئة، انتصارا مصريا، وسمّاه العدوان الثلاثي، وخرج بغنيمة تأميم قناة السويس، متغاضيا عن حجم الخسائر الكبيرة التي لحقت بمصر، ونفذت إسرائيل هجومها على سيناء ونشبت الحرب. فأصدرت كل من بريطانيا وفرنسا إنذارا بوقف الحرب وانسحاب الجيش المصري والإسرائيلي لمسافة 10 كيلومترات من ضفتي قناة السويس مما يعني فقدان مصر سيطرتها على قناة السويس وحين رفضت مصر نزلت القوات البريطانية والفرنسية في بورسعيد ومنطقة قناة السويس وانسحب الجيش المصري، ولم يجد عبدالناصر من يدافع عنه سوى الولايات المتحدة التي مارست ضغطها على بريطانيا وفرنسا للانسحاب الفوري من الأراضي المصرية، وتم نشر قوات طوارئ دولية في سيناء، وكانت حرب السويس البداية لتحولات المنطقة بعد أن أصبح عبدالناصر بطلا قوميا، تزامن مع صعوده ظهور الولايات المتحدة الأميركية كقوة متقدمة في الشرق الأوسط، منهية وجود الاستعمار التقليدي البريطاني والفرنسي.
هيكل والقذافي
المأثرة الأخرى لهيكل كانت في تأهيله نظاما دكتاتوريا جديدا ظهر في المنطقة، فحسب روايته هو، في برنامجه على قناة الجزيرة، أخبره جمال عبدالناصر أن الانقلابيين المجهولين في ليبيا، يطلبون لقاء هيكل شخصيا، وأنه عليه أن يطير بطائرة عسكرية فورا لمقابلتهم في قاعدة عسكرية ليبية، وهذا ما كان، فقد سافر هيكل إلى ليبيا والتقى مع الملازم أول معمر القذافي، وبدأت عملية الإعداد لاستنساخ نظام ناصري، عاش طويلا وكانت نهايته بعد 42 عاما من الاستعباد والاستبداد شديدة البشاعة.
هيكل ما بعد عبدالناصر
وفي أيام السادات، انحسر هيكل، فقد تبدلت الأدوار، فانشغل بإصدار الكتب، والتباهي بحيازة أكبر أرشيف للوثائق في المنطقة العربية، وبالأخص تلك التي لا يمكن الحصول عليها، دون وجود صلات مباشرة مع أجهزة استخبارات كبرى عملت وتعمل في الشرق، زجّ به السادات في السجن، وكان موقفه من كامب ديفيد ملتبسا غامضا، فلا هو رفض الاتفاقية، ولا هو أيدها، وكان كتابه (خريف الغضب) الذي صدر بعد سجنه في العام 1981، ويكتب هيكل بطريقة الروائيين، مستندا إلى أرشيفه الكبير والمنظم بدقّة، ولكنه لا يتردّد في قذف عشرات المعلومات غير المسندة، والتي توحي بأنه كان ثالث ثلاثة دار بينهما حوار سرّي كسرده لطريقة إخبار الأمير بندر بن سلطان لعمّه الملك فهد بن عبدالعزيز بتوقيت بدء عمليات معركة عاصفة الصحراء قال هيكل في كتابه (حرب الخليج أوهام القوة والنصر): (وفي صباح 16 يناير 1991، استدعى جيمس بيكر السفير السعودي إلى واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، إلى وزارة الخارجية، ليخبره بأن العملية ستبدأ تلك الليلة، السابعة مساء هنا، الثالثة صباحا، في المملكة العربية السعودية. ومن الفور، اتصل الأمير بندر، بعد انتهاء مقابلته بيكر، بالملك فهد. وأخذا يتحدثان بضع لحظات. ثم قال السفير، وكأنه تذكر الأمر، للتو (إن صديقنا القديم سليمان، سيصل في الساعة الثالثة صباحا. وهو مريض، وسأقوم بنقله، وسيصل إلى هناك، في الثالثة صباحا). فعرف الملك فهد ساعة الصفر. وهكذا، بدأت (عاصفة الصحراء)!
محمد حسنين هيكل في لقاء مع الرئيس المصري السابق محمد مرسي
أما في عهد مبارك، فلم يتوقف هيكل عن انتقاداته لفكرة التوريث، ولكنه كان قابلا بها في سوريا، وعلى صلة مع بشار الأسد ولم يكن متحمسا للثورة عليه، غير أنّه وقف مع ثورة الشعب المصري في 25 يناير، ولم يقدّم أي نصح لحكم الإخوان، وكان يمكن لشخص بحجم هيكل وتأثيره في مصر والساحة الدولية، أن يقود الإخوان إلى تحوّلات تاريخية لو شاء، ولكنه كان يكتفي باستنكاره بقاء مبارك في الزنزانة والدعوة إلى إطلاق سراحه.
وأخيرا.. كثيرا ما عُرف عن هيكل محو آثاره من خلفه ورغبته بالابتعاد، فلم يكن غريبا، ما روته بوابة الأهرام المصرية الرسمية، نقلا عن أقاربه في قريته (باسوس) عن امتعاضه من كثرة المساكين من مقرئي القرآن الكريم الذين كانوا يتوافدون عليه حين يزور قبر والده في القرية، راغبين بتلاوة بعض الآيات على القبر، مقابل صدقة من الأستاذ، مما دفع هيكل إلى إحضار سيارة إسعاف خاصة لنقل رفات الحاج حسنين هيكل إلى مكان مجهول.