كذلك ادعى مناحيم بيغن، كما نقل عنه الدبلوماسي السوفييتي بريماكوف قوله: إن المذبحة لم تكن مبررة فحسب، وإنما لولا الانتصار في دير ياسين لما وجدت دولة «إسرائيل». وهو قول، وإن كان يعبر عن تباهي بيغن بالمجزرة التي اقترفتها منظمة «الأرغون» الإرهابية، إلا أنه غير موضوعي ولا تاريخي، ويستدعي التذكير بالعوامل التي أسهمت في قيام الكيان الصهيوني على 78 % من أرض فلسطين، بدءاً من إصدار “عصبة الأمم” بإجماع أعضائها صك انتداب بريطانيا على فلسطين في 24/6/1922، متضمناً وعد بلفور بإقامة الوطن القومي اليهودي. والذي نص في مادته الثانية على وضع فلسطين سياسياً وإدارياً واقتصادياً بما يضمن إقامة الوطن القومي اليهودي وترقية مؤسسات الحكم الذاتي. كما نص في مادته الرابعة على الاعتراف بوكالة يهودية تتعاون مع إدارة الانتداب في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الأمور التي تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود.
وما بين 6 – 11 مايو /أيار 1942 عقدت القيادة الصهيونية مؤتمر بالتيمور، الذي جسد نقلة نوعية في الطموحات الصهيونية بالدعوة إلى إقامة دولة يهودية في كل شيء، كما عبر عن انتقال مركز الفعالية الصهيونية من أوروبا إلى الولايات المتحدة. وبتوظيف الإمكانات والقدرات اليهودية السياسية والاقتصادية والإعلامية، توفر للحركة الصهيونية دعم سياسي مطرد النمو من قبل صناع قرار الإدارة الأمريكية والكونغرس بمجلسيه، وأجهزة الإعلام الأمريكية فائقة القدرة. كما تأمنت لمشاريع الهجرة والاستيطان موارد مالية من صناديق الجباية اليهودية معفاة من الضرائب.
وفي العام 1944، وقد بدا مؤكداً انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وضعت القيادة الصهيونية الخطة «ب» للتصدي للحركة الوطنية الفلسطينية، فيما قامت «الهاغاناة» بإجراء مسح للقرى الفلسطينية كافة، شمل مداخل كل قرية ومخارجها، وحمائلها وما بينها من نزاعات، ومن شارك من رجالها في ثورة 1936 – 1939، ومن اعتقل زمن الانتداب. وقد جرى تطوير ذلك السجل سنوياً، وكان الأساس لعمليات الإعدام والاعتقال عندما تفجرت الحرب. وفي 1946 طورت للخطة «ج» في ضوء ما بدا في الأقطار العربية من حراك قومي معارض للطروحات الأمريكية والبريطانية المتنكرة للحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين.
وكان التجمع الاستيطاني الصهيوني فتياً قياساً بالمجتمع العربي الفلسطيني. إذ كان 44 % من المستوطنين، ما بين 18 – 50 سنة، أي في سن العمل والقتال، مقابل 28 % من العرب. بحيث بلغوا 270 ألفاً من 630 ألف مستوطن، فيما العرب 364 ألفاً من بين 1.3 مليون مواطن. وحين يؤخذ في الحسبان أن المرأة العربية لم تكن مؤهلة للقتال، يتضح أن الصهاينة رجالاً ونساء المؤهلين للقتال كانوا عملياً أكثر عدداً من نظرائهم العرب. فضلاً عن جودة تدريبهم وتسليحهم ووحدة قيادتهم.
وأثناء نظر الجمعية العامة للأمم المتحدة للصراع العربي -الصهيوني مطلع 1948، وفي جلسة الجمعية يوم 14/5/1948 فاجأ المندوب السوفييتي غرومكو العالم بموقف اعتبر تحولاً جذرياً في موقف موسكو من الحركة الصهيونية. إذ بعد أن كانت تعتبر حركة عنصرية رجعية، وكان الاتحاد السوفييتي في مقدمة الداعين لإقامة دولة ديمقراطية في فلسطين الموحدة، إذ بمندوبه في الجمعية العامة يعلن تأييده حق اليهود بإقامة دولتهم الخاصة بهم. وبذلك نجح القرار 181 بتقسيم فلسطين، بعد أن أيدته الكتلتان الرأسمالية بقيادتها الأمريكية والاشتراكية بقيادتها السوفييتية. وقد أرسى قرار التقسيم الأساس القانوني لقيام دولة «إسرائيل».
وفي 11/3/1948 عقد 9 من ضباط «الهاغاناة» بإشراف بن غوريون اجتماعاً في «تل أبيب» قرروا فيه مباشرة جريمة التطهير العرقي بحق المواطنين العرب في المناطق التي سيجري احتلالها. ويؤرخ إيلان بابيه لأكثر من ست وثلاثين مجزرة، أبرزها من حيث بشاعة جرائم التطهير العرقي وعدد الضحايا مجزرة الطنطورة، حيث تجاوز الشهداء 230، ومجزرة الدوايمة حيث تجاوزوا 455 شهيداً بينهم 170 طفلاً وامرأة. كما يؤرخ لعدة حالات اغتصاب، أكثرها بربرية اغتصاب طفلة في الثانية عشر من عمرها، وقتلها بعد أن تعاقب على اغتصابها اثنان وعشرون جندياً. وكان بن غوريون قد سجل الواقعة في يومياته، ولكن محرري اليوميات حذفوها. وفي 29/10/2003 نشرت “هارتس” تفاصيلها استناداً لشهادة المغتصبين.
ولم تكن مجزرة دير ياسين إلا واحدة من المجازر التي اقترفتها المنظمات الإرهابية الصهيونية وهي تنفذ جرائم التطهير العرقي في أثناء حرب 1948. ولكنها تفردت بكونها الأبرز في آثارها الكارثية وتأثيرها المعنوي في الجمهور الفلسطيني ودفعه للهجرة، ولا يعود ذلك للفعل الإجرامي الصهيوني وإنما للأداء الإعلامي العربي الانفعالي والمتجاهل مقاومة أهالي دير ياسين البواسل وإيقاعهم بإرهابيي الأرغون. وفي إيضاح ذلك نذكر بأنه كان لأهالي دير ياسين إسهام مشهود في ثورة 1936-1939، ولكونها لا يجاوز أهاليها 800 نسمة وتقع وسط مستعمرات يقطنها 150 ألفاً مدججين بالسلاح عقد وجهاؤها اتفاق عدم اعتداء مع المستعمرات المجاورة. وتحسباً من الغدر الصهيوني اشتروا 60 بندقية ورشاش برن.
ولكن دير ياسين كانت تحتل موقعاً استراتيجياً على طريق القدس الغربية للساحل. وللإسهام في فك حصار القدس الغربية عهدت الهاغاناة للأرغون مهمة اقتحام دير ياسين فهاجمها 130 مقاتلاً بمدافع هاون ومصفحات تدعمهم طائرة، فارتد الهجوم الأول، فأعقبه هجوم تالٍ تحول إلى قتال شوارع تكبد فيه العدو خسائر فادحة. وبرغم الاستنجاد بجيش الإنقاذ وأهالي عين كارم المجاورة. إلا أن الطرفين كانا أسرى اليأس والإحباط اللذين شاعا بعد استشهاد عبدالقادر الحسيني وسقوط القسطل في اليوم السابق. كما لم ينجدهم الجيش البريطاني والصليب الأحمر الدولي. وبعد سقوط القرية باشر المعتدون مجزرتهم. وأعقبوا ذلك بوضع من تبقى حياً من النساء والأطفال في شاحنة طافت بهم شوارع القدس الغربية. وسط تصفيق الجمهور الصهيوني للإنجاز المتحقق.
وقابل بعض الناجين ممثل الهيئة العربية العليا بالقدس د. حسين فخري الخالدي، وأبلغوه أن ضحاياهم حوالي 400 شهيد وأن قتلى اليهود كثيرون جداً. وانفعل الخالدي أمام هول المأساة، ووجدها فرصة للتشهير بالصهيونية واستثارة النخوة العربية. فوزع على وكالات الأنباء بياناً متضمناً أرقام الضحايا العرب دون ذكر لمقاومة أهالي دير ياسين وإيقاعهم بالعدو خسائر تقارب ضحايا دير ياسين كما ذكر بعضهم لبهجت أبو غربية، أو يأخذ في حسبانه أن إصدار البيان في المناخ النفسي السائد بعد سقوط القسطل كان كارثيا إذ ساهم في إشاعة الرعب والهلع في كل ربوع البلاد. ولقد دفع شعب فلسطين غالياً ثمن بيان لم يصدر عن بصيرة وترو وتقدير علمي للموقف.