ما كادت البلدان العربية التي شهدت حراكاً شعبياً تتنفّس الصعداء بعد تبلور مطالب شعوبها باتجاه التغيير، حتى بدأت معاناة أخرى ومن نوع جديد تواجهها، والأمر لا يتعلّق بصميم ما سعت إليه ورفعته من شعارات ذات طبيعة قيمية، مثل المطالبة بالحرّيات والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وغيرها، بل بصراعات واحتدامات جديدة سرعان ما أخذت طريقها إلى المسرح السياسي، خصوصاً ما رافقها من عنف وفوضى وتفتت مؤسسات الدولة وانحلال بعضها.
والأمر لا يتعلق بالشرعيات القديمة التي انهارت، أو تآكلت، أو ضعف دورها، بقدر ما له علاقة بطبيعة التغييرات الحاصلة والحواضن الاجتماعية لها، والمرحلة الانتقالية التي تمرّ بها ودور الدولة العميقة في مواجهتها والتحديات التي اعترضت طريقها، والقوى التي حاولت تجيير عملية التغيير لمصلحتها، والتطورات الجديدة وغير المتوقعة التي أعقبتها.
وإذا كانت الشرعيات القديمة قد أصبحت ماضياً، ولا يمكن إعادته، أو العودة إليه، فإن المسألة في وجهها الآخر ترتبط بعدم ولادة شرعية جديدة وتوافقات تستجيب لمطامح التغيير وتطلّعاته، خصوصاً باللحظة الثورية التي اتحدت فيها العوامل الموضوعية مع العوامل الذاتية، بالنسبة إلى الشباب.
وإذا كان القديم قد انهار، أو تفكّك، أو تذرّر، لكن الجديد لم يولد بعد، وحتى ولادته كانت قيصرية أحياناً، وسرعان ما تعرّض المولود الجديد إلى التهابات حادة وأعيد إلى حاضنته، فضلاً عن كوابح وعراقيل بدأت مع أولى محاولات البناء، سواء من جانب القوى المخلوعة أو من جانب قوى وجدت مصلحتها في الماضي، أو أرادت أن تكون هي بديلاً عنه، وهكذا تبدّدت فرص التغيير، وأصيب البعض بالخذلان والخيبة، بل وُجد هناك من اعتبر التغيير كارثة، والربيع أصبح بعرفه خريفاً، لأن البديل كان ملتبساً، حيث استشرت الفوضى وعمّ العنف وتفشى الإرهاب على نحو مريع، بل إن الدولة الوطنية أصبحت عرضة للتمزّق والتآكل والتفتت، وتم العبث بوحدتها وهيبتها ومرجعيتها.
وإذا كانت حركة الاحتجاج استهدفت استعادة الحقوق المفقودة والمستلبة، فإن العواصف والتقلّبات والانقسامات التي شهدتها البلدان التي عرفت التغيير، دفعت أوساطاً غير قليلة إلى القنوط لدرجة اليأس، خصوصاً بصعود نجم الجماعات الإرهابية، سواء تنظيم القاعدة أو ربيباته: تنظيم «داعش» وجبهة النصرة وغيرهما، إضافة إلى قوى محافظة أحياناً قد تكون أبعد عن الحداثة من القوى الاستبدادية التي حكمت البلاد.
للأسف الشديد، فإن الطبقة السياسية التي تصدّرت المشهد عقب أنظمة الاستبداد التي أطيحت والتي زعمت أنها كانت السبب وراء معوّقات التطور الديمقراطي، وقفت هي الأخرى بسبب صراعها على السلطة ومراكز النفوذ وبفعل الفساد المالي والإداري والتذرّر الطائفي والمذهبي، بوجه علميات التحوّل الديمقراطي، لاسيّما في ظل استشراء العنف والإرهاب، ولذلك ضاعت الحقوق التي ناضلت من أجلها الشعوب وحركات الإصلاح والتمدين ومن أهمها «الحق في الحق»، وأساسه الحق في التمثيل السياسي، والحق في الأمن، والحق في السلام، والحق في التنمية، والحق في الحرية، والحق في الكرامة، والحق في السكن والعمل والضمان الاجتماعي، والحق في العلاج، وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتلك من مستلزمات دولة الحق والقانون، خصوصاً باعتماد حكم القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات والإقرار بالتنوّع والتعددية وحق الشعب في اختيار من يمثله وحقه في عزله، على أساس التداولية السلمية للسلطات.
واستبدلت الطبقة السياسية بعد إطاحة الأنظمة السابقة، مفهوم الدولة الاستبدادية ليحلّ محله مفهوم الدولة الغنائمية، والمحاصصة الطائفية والحزبية، وولدت وتكاثرت بسرعة خارقة لوبيات فاسدة وفئوية ولصوصية، فضلاً عن غياب رجال دولة حقيقيين، فالطاقم السياسي بشكل عام جاء في أغلبيته من المعارضات، التي ليس لها خبرة أو معرفة بالدولة وآليات عملها، وبسبب ضعف الرقابة وتفكك أجهزة الدولة ومحاولة الكسب غير المشروع والسريع استشرى الفساد المالي والإداري على نحو لم يسبق له مثيل، بل إنه شكّل ظاهرة صارخة في أوضاع ما بعد الربيع العربي.
لو راجعنا تقارير البنك الدولي والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية المعتمدة، مثل منظمة الشفافية العالمية، لاكتشفنا إن بلدان ما بعد الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية، سواء التي وصلت فيها النخب الحاكمة بعد الاحتلال، مثل أفغانستان والعراق، أو بالتدخل الخارجي كما هو في ليبيا واليمن، هي الأكثر فساداً، بل إن بلداً مثل العراق وصلت وارداته النفطية خلال السنوات العشر الماضية أكثر من 700 مليار دولار، لكنه لا يزال يعيش على الحافة، وترتفع نسبة من هم دون خط الفقر لتصل إلى أكثر من 8 ملايين إنسان في بلد عدد سكانه نحو 30 مليوناً، وتزداد نسبة البطالة وتتفشى الأمية فيه، ولاسيّما بين النساء، فضلاً عن الإرهاب والعنف والطائفية والمحاصصة والفساد، وهو من أغنى بلدان العالم. وهكذا كانت المعادلة أغنى بلد لأفقر شعب.
ومن النتائج الكارثية الجانبية لحركات التغيير، صعود ظاهرة الإسلام الجهادي، في تونس وليبيا وسوريا ومصر والعراق، خصوصاً بين أوساط المهمشين والمنحرفين والمجرمين والفئات الأقل تعلماً، تلك التي تبنّت أيديولوجية «داعش»، التي تمدّدت ليشمل نشاطها قارات وبلداناً بعيدة مجندة آلاف الشباب، بمن فيه الأوروبي والغربي للالتحاق بها.
وإذا كانت الدولة العميقة قد انهارت سريعاً، لكن تأثيراتها لم تنتهِ ولا تزال قائمة وقوية، وقد استعادت بعض مواقعها، ولكن تحت عناوين اقتسام الغنائم والحصص وتوزيع الفوائد على القوى المتنفذة، مهما اتخذت من أسماء وصفات.
والأمر لا يتعلق بنفوذها الداخلي فحسب، بل إنها عقدت شراكات مع الخارج، بما فيها الدول والشركات العابرة للقارات والحدود التي زعمت أنها تقف مع التغيير.