إذا كان مطلوبا تيئيس البنانيين، لا شك أن “حزب الله” نجح في ذلك. نجح خصوصا في جعل لبنان بلدا بائسا فقيرا غير قادر على التقاط أنفاسه، وذلك من أجل إخضاعه وتغيير طبيعة النظام فيه.
لم يكن تلهي المسيحيين في قضايا صغيرة من نوع رئيس دائرة من هنا أو هناك، بدل التركيز على القضية الأكبر، وهي انتخاب رئيس للجمهورية والشراكة الوطنية الحقيقية، المشكلة الوحيدة التي أشار إليها وزير الداخلية نهاد المشنوق أخيرا. كان كلامه الآخر عن رهان قسم من اللبنانيين على السلاح الفلسطيني في مرحلة معيّنة في غاية الأهمّية والشفافية.
هناك عملية نقد للذات ولممارسات الماضي، قلّما تجرّأ، أو يتجرّأ، عليها فريق لبناني مسلم بات يعرف أن لا خلاص لجميع اللبنانيين إلا من خلال مشروع الدولة. الدولة التي تحتكر السلاح وليس الدولة التابعة لهذا الحزب المذهبي أو ذلك والخاضعة لسلاح غير شرعي.
كلّما مرّت سنة أخرى على ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يكتشّف اللبنانيون أكثر من يقف وراء الجريمة.
يكتشفون خصوصا إلى أيّ حد هي مرتبطة بالمشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. لكنّهم يكتشفون أيضا أن الجريمة التي يتعرّض لها لبنان مستمرّة. نشهد في كلّ يوم فصلا جديدا من هذه الجريمة التي تستهدف اغتيال بلد انطلاقا من اغتيال رجل.
كان الفصل الأخير، من الجريمة التي ترتكب في حقّ لبنان، إعلان أحد القياديين في “حزب الله” بعد اجتماع مع المرشّح الرئاسي النائب المسيحي ميشال عون أنّه “عندما تتوفّر الظروف لانتخاب رئيس للجمهورية، سنكون أوّل النازلين إلى مجلس النوّاب” من أجل انتخاب الرئيس. لا شرط لدى “حزب الله” سوى انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. هذا على الأقلّ ما يقوله الحزب في العلن. في الخفاء، هناك رغبة واضحة في تغيير طبيعة النظام اللبناني وطبيعة البلد كي يفرض الحزب الرئيس الذي يريده. الأهمّ من ذلك، كي يفرض الحزب على لبنان النظام الذي يريده.
من يكون رئيس لبنان هو خيار خاص بـ”حزب الله”، كذلك، طبيعة النظام المعمول به. فرض الحزب لرئيس على لبنان، مجرّد خطوة أخرى على طريق فرض نظام جديد يجعل من لبنان تابعا لإيران لا أكثر. هذا ما يفترض في اللبنانيين التنبّه إليه. ربّما عليهم التنبّه، قبل كلّ شيء، إلى أن نقل لبنان من الإيمان بثقافة الحياة إلى التشبث بثقافة الموت، هو الهدف ولا شيء آخر.
بات الحزب يسيطر على كلّ مرافق الجمهورية. ذلك هو الواقع الذي يؤمل باللبنانيين استيعابه. عندما يبتلع الحزب البحر، هل يغصّ بالساقية؟ بعدما تحكّم “حزب الله”، ومن خلفه إيران بكل السلطات، السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، لم يعد في وسع أي طرف في البلد أن يستكثر على الحزب اختياره رئيسا للجمهورية وفرضه على اللبنانيين، ضاربا الحائط بأبسط القواعد الدستورية المعمول بها.
لا يحدث شيء بالصدفة في لبنان. جزء من اللعبة تيئيس اللبنانيين وإفقار بلدهم وتهجير أكبر عدد من المواطنين من الوطن الصغير. لم تكن موجة الاغتيالات التي تلتْ تفجير موكب رفيق الحريري سوى جزء من هذه اللعبة وفصل من فصولها.
مع اقتراب الذكرى الحادية عشرة لاغتيال رفيق الحريري ورفاقه، يكتشف اللبناني أن الصمود الأسطوري في وجه المشروع التوسّعي الإيراني بدأ يتراجع، خصوصا في ظلّ غياب زعامات مسيحية قادرة على امتلاك رؤية للمستقبل بعيدا عن أيّ نوع من الانفعال والسير في مشروع انغلاقي على الذات.
ثمّة حاجة واضحة إلى فهم في العمق للخطر الذي يمثّله “حزب الله” على ثقافة الحياة في لبنان وعلى تركيبة المجتمع اللبناني. ثمّة حاجة إلى فهم الدور الذي لعبته إيران منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي من أجل تغيير طبيعة بيروت كمدينة يعيش فيها لبنانيون من كلّ الطوائف والمناطق بعيدا عن الميليشيات وقيمها المرتبطة بالسلاح غير الشرعي.
صحيح أن الميليشيات المسيحية والمسلمة مسؤولة عن فظاعات مرتبطة بالذبح على الهوية والتهجير المتبادل في عامي 1975 و1976، لكنّ الصحيح أيضا أن القسم الأكبر من المسيحيين هجّر من بيروت الغربية، خصوصا من رأس بيروت والمصيطبة والمزرعة، على يد “حزب الله”. كان السادس من شباط – فبراير 1984، نقطة تحوّل في مجال إنهاء الوجود المسيحي تدريجا في كلّ بيروت الغربية.
ما نشهده اليوم فصل آخر من مشروع قديم، بدأ بمحاولة القضاء سريعا على معالم الحياة في بيروت. بعد فشل مشروع الانقضاض السريع على بيروت، بدأ تنفيذ مشروع آخر يقوم على الموت البطيء للبنان ولمؤسسات الدولة ولثقافة الحياة في بلاد الأرز.
من يتذكّر ما تعرّضت له الجامعة الأميركية في بيروت، في ثمانينات القرن الماضي، من خطف لرئيسها ديفيد دودج (نقل من بيروت إلى طهران عبر دمشق) ثم اغتيال لرئيس آخر هو ملكوم كير، وخطف لأساتذتها، وصولا إلى تفجير “كولدج هول”؟
تحتفل الجامعة هذه السنة بمرور مئة وخمسين عاما على قيامها. يعطي محيط الجامعة فكرة عن مدى تدهور طبيعة المجتمع اللبناني من جهة، وحجم العزلة العربية التي يعاني منها لبنان وما كان يسمّيه الظرفاء والمثقّفون فعلا “جمهورية راس بيروت” من جهة أخرى.
ليس سرّا الدور الذي لعبه رفيق الحريري في إبقاء الجامعة الأميركية ومستشفاها على قيد الحياة. ليس سرّا ما فعله أيضا من أجل الجامعة اللبنانية وكلّ مؤسسات التعليم الرسمي.
كان كلّ ما يفعله من أجل بقاء لبنان مقاوما لثقافة الموت، وذلك انطلاقا من عودة الحياة إلى بيروت ووسطها، في حين كان هناك من يسعى إلى التدمير ونشر البؤس من أجل إيصال البلد إلى ما وصل إليه الآن.
إذا لم يكن الوقت مناسبا اليوم لانتخاب رئيس للجمهورية، متى “تنضج الظروف؟” كما يقول نائب عوني لا يعرف أن لبنان في خطر ولا يريد أن يعرف شيئا عن أن المطلوب حاليا إنقاذ مؤسسة رئاسة الجمهورية قبل أيّ شيء آخر وذلك للإبقاء على أمل بإنقاذ لبنان. من يزجّ نفسه في لعبة تغيير النظام، إنّما يدخل عن سابق تصوّر وتصميم لعبة تكريس الوصاية الإيرانية على لبنان.
اليوم هو الأنسب لانتخاب رئيس للبنان. اليوم قبل غد. في غياب امتلاك ما يكفي من الشجاعة للإقدام على هذه الخطوة، يصحّ التساؤل: هل كان رفيق الحريري ومشروعه القائم على ثقافة الحياة يجسّد المحاولة الأخيرة لإنقاذ الجمهورية اللبنانية؟
مرّة أخرى وليست أخيرة، كلّما مرت سنة على ذكرى اغتيال “أبو بهاء” تتوضّح أكثر فأكثر خفايا الجريمة وأبعادها. لم يعد من أمل في ظلّ التيئيس المستمرّ للبنانيين والإصرار على تغليب ثقافة الموت وعزل البلد عربيا، سوى في ما بقي من الإصرار اللبناني على المقاومة من جهة، وعلى ظهور وعي مسيحي لما هو على المحك وطنيا من جهة أخرى.. الباقي تفاصيل لا أكثر.