35 مستوطنة محاذية لقطاع غزة تعيش يوميًّا حالة رعب من تنفيذ عمليات استشهادية من قِبَل المقاومة الفلسطينية، عبر الأنفاق التي فشلت القوات الإسرائيلية مرارًا في اكتشافها أو وقف حفرها، أصوات معدات الحفر باتت تشكل إزعاجًا للمستوطنين، حتى إن كانت تعمل لصالحهم في مستوطنات مجاورة، رغم تعدد الإجراءات الأمنية الصهيونية الهادفة إلى طمأنة قطعان المستوطنين، إلَّا أنها لم تنجح في تهدئة الهاجس الأمني والفزع المسيطر على جنبات المستعمرين، مما دفعهم إلى توجيه سهام انتقاداتهم إلى الحكومة والقيادات الأمنية.
الأنفاق.. سلاح تاريخي للمقاومة
حاولت المقاومة الفلسطينية على مر الزمان استحداث وسائل مختلفة لمقاومة الاحتلال، وتحقيق التوازن مع الكيان الصهيوني، وكسر الحصار الذي فرضه الاحتلال على قطاع غزة، حيث استلهم الفلسطينيون فكرة الأنفاق من أنفاق “الفيت كونج” التي حفرها مقاتلو الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام خلال حرب فيتنام مع أمريكا، وعرفت الأنفاق الفيتنامية التي امتدت على طول 200 كلم تحت الأرض باسم أنفاق كوشي.
ظاهرة حفر الأنفاق ترجع إلى زمن بعيد، حيث كان أول نفق تم اكتشافه من قِبَل جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 1983، وكانت الأنفاق في تلك الفترة محدودة، وحاولت سلطات الاحتلال السيطرة عليها ومنعها وهدمها؛ خوفًا من دخول السلاح لفصائل المقاومة، خاصة مع بداية الانتفاضة الأولى عام 1987.
منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت في عام 2000، أخذت الأنفاق منحى آخر، حيث ازداد تهريب السلاح للمقاومة من خلالها، مما أدى إلى توسعها وانتشارها بشكل كبير. تكرست الفكرة وتزايد العمل بها حتى أصبحت مهنة بعض الفلسطينيين في عام 2006، وذلك عندما اشتد الحصار الإسرائيلي واعتمد الكيان الصهيوني سياسة غلق المعابر، مما دفع الفلسطينيين للبحث عن طريقة للتغلب على الأسوار العالية والأسلاك الشائكة التي حالت دون عبورهم من مكان إلى آخر وضيقت الخناق عليهم، كما طورها الفلسطينيي وزودوها بالكهرباء والمياه وغيرها من المرافق اللازمة للمكوث فيها مدة طويلة.
استمر الكيان الصهيوني في مهاجمة الأنفاق ومحاولة اكتشافها وتفجيرها، لكن ذلك لم يحول دون استمرار الفلسطينيين في حفرها وتطويرها، كما عجز الكيان الصهيوني عن وقف تلك الظاهرة، وحاولوا استحداث وسائل وأسلحة متطورة، يمكن من خلالها الكشف عن مواقع الأنفاق، لكن هذه الجهود باءت بالفشل، وظلت هذه الأنفاق تمثل مصدر قلق وإزعاج للقيادات الأمنية في الكيان، حيث إنها بعيدة عن التأثير المباشر للقصف الجوي الإسرائيلي للقطاع، فيتم حفر الأنفاق على أعماق كبيرة تصل 20 ـ 30 مترًا تحت الأرض، كما أنها بعيدة تمامًا عن الجدران العازلة والأسلاك الشائكة المكهربة وكاميرات المراقبة التي تشيدها إسرائيل على الحدود، ويتطلب الكشف عن هذه الأنفاق إما معرفة مداخل النفق أو التنقيب عن المداخل باستخدام المجسات الصوتية وأجهزة كشف الزلازل أو الرادارات.
نجحت حركة حماس في إنشاء شبكة من الأنفاق تحت أرض غزة على ثلاثة أنواع، تهريب ودفاعية وهجومية، فالأول يستخدم بين مصر والقطاع عند رفح، والثاني يتمثل في أنفاق دفاعية داخل غزة ويستخدم لحفظ الأسلحة وكنقاط تحكّم وسيطرة، أما الثالث فيتم من خلاله تنفيذ العمليات الهجومية، ويوجد على الحدود بين القطاع وإسرائيل، والفرق بين الأنفاق الهجومية وأنفاق التهريب، هي أن الأولى مصممة ليتم استخدامها مرة واحدة أو مرتين فقط، فتكون واسعة بما يمكن لرجل مسلح أن يمشي من خلالها، أما الثانية فتكون أكبر وأفضل تجهيزًا لتساعد على الاستخدام المستمر ونقل معدات ضخمة.
فزع صهيوني وعجز حكومي
الأذهان الصهيونية لم تتوقف لحظة عن التفكير في خطورة الأنفاق الفلسطينية على أمنهم، بل تزايدت خلال الفترة الأخيرة بعد نشر معلومات متباينة حول تصاعد وانتشار ظاهرة الأنفاق على حدود قطاع غزة مع الكيان، خاصة أن إسرائيل اكتشفت نفقًا طويلًا ومهمًّا يمتد لعدة كيلو مترات ويصل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبه إمكانات عالية وتقنية متقدمة جدًّا، خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، مما يعزز الهواجس الإسرائيلية ويوحي بتفوق الفلسطينيين من جانب، وتخوف الصهاينة من جانب آخر.
تزامن ذلك أيضًا مع إطلاق كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، رسالة مهمة وجهتها للأسرى الفلسطينيين، مفادها أنهم لم ولن ينسوهم، وأنهم سينهون صفقة جديدة لتحريرهم، بعد امتلاكهم لأوراق قوة ستجبر الاحتلال على الرضوخ لها وتحرير الأسرى، وهي الرسالة التي جاءت على خلفية مقتل 7 من الفلسطينيين في نفق على حدود القطاع مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، في مطلع فبراير الحالي، وهو النفق الذي أسرت فيه تلك الكتائب الجندي الإسرائيلي، شاؤول آرون.
وفي هذا السياق رأت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الصهيونية، في تقرير لها أن هناك هواجس وقلقًا متزايدًا يعتريان الكيان الصهيوني، بعد تفوق الفلسطينيين في نشر الملاجئ والأنفاق لمسافات طويلة من داخل قطاع غزة إلى المستعمرات القريبة منه، والتي تسمى بـ«مستوطنات غلاف غزة»، وشكوى كثير من المستعمرين لرؤساء أحيائهم بعد سماعهم لأصوات حفر منتشرة تحت الأرض، فيستدعون قوات الهندسة الذين لا ينجحون بكشف مسارات الأنفاق ويعودون إلى قواعدهم محبطين.
المستوطنون الصهاينة الذين لم ينعموا بالأمن والأمان الذي وعدت به حكومتهم، صعَّدوا خلال الفترة الأخيرة من انتقاداتهم للحكومة، متهمين إياها بالتردد والعجز عن معالجة أنفاق غزة، وتركهم بحالة رعب تصل إلى فقدان القدرة على النوم، تحسبًا من مهاجمتهم، حيث طالبوا حكومتهم مرارًا بتوفير دعم مالي كبير لإنشاء جدار عازل بطول الحدود مع قطاع غزة، لحمايتهم وتأمينهم من مخاطر هجوم المقاومين الفلسطينيين عليهم، وهو ما عجزت عنه الحكومة أيضًا.
الانتقادات لم تنبع من الستوطنين فقط، بل امتدت لتصل إلى السياسيين وأعضاء الكنيست أيضًا، حيث قال عضو الكنيست “حاييم يالين” المقيم في واحدة من المستوطنات المجاورة لغزة: إن الحكومة لم تفِ بوعدها السابق ببناء معيقات تحمي من الأنفاق، مضيفًا أنها مترددة ولا تفعل شيئًا لمهاجمة الأنفاق من غزة أو بناء ما يحول دون بلوغها المستوطنات، مؤكدًا أن نتنياهو يثبت مجددًا أنه ليس قائدًا بل مجرورًا.
انضم رئيس المعارضة يتسحاق هرتسوج، للانتقادات الموجهة للحكومة، ودعاها لمهاجمة الأنفاق، وعلق محللون إسرائيليون على الأمر قائلين: إن هذا الأمر يثبت تفوق وإبداع الفلسطينيين مقابل «الجمود الفكري» الملازم للجيش الصهيوني.
في ظل الفشل الاستخباري والأمني الخاص بالكيان الصهيوني، الذي اتضح لمواطنيه خلال الفترة الأخيرة، خاصة مع تزايد عمليات الطعن والدهس من قِبَل المقاومة الفلسطينية، وسط عجز الاحتلال وقياداته الأمنية عن السيطرة عليها أو إحباطها، حاولت القيادة الإسرائيلية أن تسجل أي نجاحات تُذكر لمواطنيها حتى إن كانت ستقتصر على التهديد، حيث خرج رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، ليبعث برسالة تهديد لحماس، قال فيها: إن إسرائيل سترد بقسوة أكبر مما كان في حرب الجرف الصامد بحال وقع هجوم عبر الأنفاق، وأضاف نتنياهو أن إسرائيل تعمل بهدوء ومنهجية مقابل كل التهديدات، بما في ذلك تهديد حماس بوسائل دفاعية وهجومية.
الأنفاق.. كلمة سر الحرب المقبلة
ظاهرة الأنفاق الفلسطينية ليست جديدة، ومما يثير تساؤلات حول توقيت طرح هذا الموضوع بكثافة من قِبَل الكيان الصهيوني، سواء قادته أو إعلامه أو مستوطنيه، فهل طرح هذا الأمر مجددًا، وحديث رئيس الوزراء الإسرائيلي عنه بمثابة تهيئة أرضية مسبقة لعدوان جديد ينوي الاحتلال الصهيوني شنه على قطاع غزة بحجة الأنفاق؟ أم أن الضغوط المتزايدة على قياديي الاحتلال من قِبَل مستوطنيه، ونعتهم بالفشل والتردد والعجز، دفعهم إلى طرح مسألة الأنفاق من جديد؟
https://youtu.be/DkhAPYXQhlU
https://youtu.be/zuJb3jPTa-I
https://www.youtube.com/watch?v=YFRRt6cy20w&feature=youtu.be