استقرار المشاعر العامة، على أوضاع شبه طبيعية، من ضرورات اطمئنان أي مجتمع إلى مواجهة التحديات التي تعترضه. مما هو طبيعي أن تضطرب المشاعر أثناء الثورات وحوادثها العاصفة التي تقلب معادلات السياسة، من دون أن تتضح الصورة الأخيرة للمستقبل.
ومما هو غير طبيعي أن تتمدد الحالة نفسها، بعد إيداع مطالب الثورات في شرعيات دستورية.
أزمة المشاعر العامة في مصر ليست هامشية، ولا عابرة، فهي تعكس غياب القواعد المستقرة في إدارة الدولة، وقدراً لا يستهان به من القلق، على ما قد يحدث غداً. بأي تقدير، لا يمكن تجاوز جبال الأزمات بعصا سحرية، غير أنه لم تحدث مصارحة حقيقية بأحجامها وطبيعتها، ولا جرى حساب سياسي للذين تسببوا فيها.
هذا صلب قضية «العدالة الانتقالية» التي لا تستهدف انتقاماً وتشفياً، بقدر ما تطلب إجلاء الحقيقة حتى لا تتكرر أخطاء الماضي مرة أخرى.
الخطوة الضرورية الأخرى لاستقرار المشاعر العامة، على أوضاع شبه طبيعية، أن يُحفر مجرى جديداً تمضي فيه السياسات. أن تكون هناك بوصلات تهدي الخطى وتبث الثقة، أننا على الطريق الصحيح مهما تعاظمت التضحيات.
تلك مسألة رؤية سياسية أفضي غيابها إلى تآكل الرهانات الكبرى على التحول إلى دولة ديمقراطية حديثة تعلي من شأن الحريات العامة، وتضمن حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية.
بعض أسباب الاضطراب تعبير عن القلق، من عدم وضوح الوجهة الرئيسية، التي نمضي فيها. وبعض الأسباب الأخرى تعكس، على نحو صريح، صراعات على القوة والنفوذ لتطويع الحاضر وفق مصالح الماضي.
أسوأ قراءة للمساجلات الصاخبة حول «ظاهرة الألتراس» تلخيصها في مشهد غاضب لتجمع من عشرات الآلاف، منظم بدرجة عالية في استاد النادي الأهلي، أو سؤال متجدد عن حقيقة ما جرى قبل أربع سنوات، في استاد بورسعيد، من حوادث دموية أسقطت أكثر من سبعين ضحية من مشجعي أعرق الأندية المصرية.
القضية أكبر من تجمع «الألتراس»، لكنه لخصها في مشهد وسؤال. المشهد يكشف جروحاً عميقة استعصت على أن تندمل، وعدم ثقة، واحتمالات لصدامات مقبلة، قد تستقطب قوى أخرى.
والسؤال يتردد صداه في ملفات عديدة تبحث عن الحقيقة دون جدوى.
هناك من يحرض على الكراهية في تعبئة تقف وراءها بعض مصالح رجال الأعمال، وبعض منتسبي الأجهزة الأمنية. وفي التحريض دعوة إلى إفشال مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسي، لفتح حوار مع الأجيال الجديدة التي «لا نعرف كيف نخاطبها، ولا أن نتفاهم معها»، بحسب نص تعبيره. إنه صراع شبه معلن على صورة النظام ومستقبله.
التحريض يستهدف منع أي إصلاح ضروري في بنية المؤسسة الأمنية لتلحق بعصرها، وفق القيم الدستورية. وهذا ضد الأمن، وينال من تضحياته في الحرب على الإرهاب. الأخطر دخول التحريض في «فتنة مؤسسات الدولة».
عندما ألغت محكمة النقض حكماً بإعدام 147 من منتسبي جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها، وإحالة القضية إلى محكمة جنايات أخرى، كان هناك من هو مستعد لاتهام أعلى سلطة قضائية بالتواطؤ على دم شهداء الشرطة الذين سقطوا في مجزرة «كرداسة»، التي وصلت بشاعتها إلى التمثيل بالجثث، إثر فض اعتصامي ميداني «رابعة العدوية» و«النهضة».
باسم الدفاع عن الأمن وحقوق شهدائه جرى إهدار ما تبقى من احترام للعدالة في مصر. فإمّا أن تكون هناك عدالة أو لا تكون. تأخر الحسم في قضايا الإرهاب مأساة. وتقبل إعدام بريء واحد، مأساة أخرى.
من حق أسر شهداء الشرطة، أن تطمئن قلوبهم على أن المجرمين قد نالوا عقابهم. غير أن التحريض دون تبصر على مقتضيات العدالة وسلامة إجراءاتها، ينسف أي رهانات على تأسيس دولة قانون.
الأخطر أن هناك أصواتاً شاردة، تتصور أن القصاص لشهداء الشرطة، يعني ظلم آخرين لم يتورطوا في أي عنف، يقبعون خلف القضبان، وفق قانون التظاهر. القاعدة إنصاف كل ضحية اُستبيح دمه، أو سُلبت حريته. ولا يصح أن يقال إن العفو عن الموقوفين من شباب «يناير» تنكر لتضحيات الشرطة.
عرض الموضوع، على هذا النحو، يستهدف منع كل إصلاح محتمل، في جهازي الأمن والعدالة، وأي مصالحة ممكنة بين الدولة وشبابها.
إن مصر التي تضطرب مشاعرها العامة تحتاج إلى فتح قنوات الحوار العام، وأن تشارك فيه كل قواها الحية، و«عقولها النيرة»، بتعبير الرئيس عبدالفتاح السيسي.
إن نفي الحوار جهل بالحقائق. في بلد مثل مصر، يمثل الشباب نحو 60% من سكانه، فإن الصدام معهم، يعني بالضبط خسارة المستقبل.
بأي معنى جدي للأمن السياسي، فإن من مقتضياته تخفيض احتمالات الصدام ودرجة خطورته. وبأي معنى حقيقي لفرص بناء الدولة، فإن دمج الشباب مسألة لا مفر منها.
السؤال الأكثر محورية، في أي حوار ممكن: كيف نحفظ الأمن وندعمه في الحرب على الإرهاب، من دون تغول على الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطنين؟
الحوار وحده هو القادر على استكشاف فرص بناء التوافقات العامة، ومنع أي انفجارات مفاجئة في وجه المجتمع.