أصدرت الحكومة الصينية في منتصف شهر كانون الثاني/يناير 2016 وثيقة مهمة هي أول ورقة للسياسة العربية للصين. وقد جاءت الورقة في عدد قليل من الصفحات، ولكنه مكتنز من حيث المضمون، إذ جرى في قسمه الأول عرض لأهم محطات العلاقات العربية-الصينية مثل تأسيس المنتدى الصيني-العربي عام 2004، والمباشرة باستطلاع واكتشاف أفق التعاون الاستراتيجي بين الصين والدول العربية، أما القسم الثاني من الورقة فقد تضمن نظرة سريعة على الأوضاع العربية الراهنة، وصولاً إلى القسم الثالث الذي تضمن الجانب الأهم من الورقة أي مجالات التعاون المتوافق عليها مع إبراز وتوضيح الدور الصيني فيها.
لقد تضمنت الورقة الخطوط العامة لسياسة بكين العربية. ولم يكن مستطاعاً التطرق إلى هذا الموضوع من دون أن تضع الخارجية الصينية النقاط على الحروف فتحدد بوضوح موقفها من التحدي الرئيسي الماثل أمام أعين الزعماء الصينيين والذي نعني به تحديد طبيعة النظام الدولي نفسه. فمن منظار صيني تبدو هذه القضية وكأنها عقدة العقد خاصة عندما نسأل السؤال التالي: هل النظام العالمي نظام أحادي أم تعددي؟ أي أن نسأل، بتعبير آخر: هل أن الصين دولة عظمى أم تنفرد الولايات المتحدة وحدها بهذه الصفة؟ وقد أجابت الورقة نفسها عن هذا السؤال إذ جاء فيها أن التيار نحو قيام عالم تعددي والعولمة الاقتصادية يتعمق.
وتنسجم هذه الرؤية مع نظرات الكثيرين من أهل الرأي والقرار في البلاد العربية الذين يعتبرون أن النظام العالمي هو اليوم نظام مركب: أنه ليس أحادي الطابع لأنه يضم قوى كبرى صاعدة وأولها وأهمها الصين، وهذا التيار هو أحادي بمعنى أنه يضم قوة عالمية واحدة ولكنها غير مهيمنة على العالم بأسره، كما كان الأمر أيام الامبراطورية الرومانية.
ما عدا ذلك فإن الورقة تنتقل إلى المنطقة العربية لكي تعرض أوضاعها بصورة عامة وتتحدث عن المشاريع التي ترغب الصين في تحقيقها بالتعاون مع الدول العربية. وعندما يطل هذا الموضوع فإن ما يميز ورقة الصين عن غيرها من الأوراق القوى الكبرى والعظمى، أنها تتناول البلاد العربية كمنطقة واحدة. ولا تنسى الورقة أن تذكر في هذا المضمار أن العرب يتعاطفون مع الصين ويشدون من أزرها ماضياً وحالياً ومستقبلاً بشأن الوحدة الصينية ومسألة «الإقليم الشارد» تايوان. وتعود الورقة إلى هذه المسألة لكي تؤكد أن العوامل التي تجمع بين الصينيين والعرب هي كثيرة وأنها تصلح أساساً لعلاقات صداقة وتحالف متينة بين الطرفين.
وتضرب الورقة على أوتار حساسة في المنطقة عندما تتحدث عن التعاون مع الدول والمجتمعات العربية. فهي تميز بين مستويين من التعاون والتعامل: التعاون مع الدول العربية على أساس ثنائي، والتعاون مع الدول على أساس جماعي. إن الصين تحترم خصوصية الدول وحرصها على السيادة الوطنية. والصين على أتم استعداد للتعاون مع غيرها في مشاريع مشتركة وفي إطار العلاقات الثنائية أو حتى التعددية التي تضم عدداً من الدول العربية. وتحرص الصين على الابتعاد عن أي تدخل أو تطفل على الشؤون الداخلية. مع ناحية أخرى، فإن بكين تقول بكل وضوح إنها تقدر مؤسسات العمل العربي المشترك، وإنها تدعم دور الجامعة العربية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وإنها على استعداد لتقوية التشاور والتعاون مع الجامعة. كذلك تضيف الصين أنها تقدر أهمية مجلس التعاون الخليج وأنها على استعداد لتنمية الحوار مع المجلس.
إن الإعراب عن استعداد جهة دولية على إجراء الحوارات والمفاوضات وتوقيع الاتفاقيات الثنائية مع الدول العربية لا يمثل نهجاً جديداً في العلاقات مع الدول العربية، بل جرت العادة على أن يكون هو النهج الأكثر انتشاراً لأن الدول الأجنبية التي ترغب في فرض شروط تفاوضها مع الدول العربية تفضل استفراد كل منها على حدة. الجديد هنا هو ما جاء في ورقة الصين حول النظرة الإيجابية والمشجعة إلى مؤسسات العمل العربي المشترك. إن هذا الموقف الأخير يمثل الفرق بين قوة كبرى تعمل كقاطرة للتقدم الإنساني وبين قوى أخرى تمارس سياسة «افقر جارك» السيئة الذكر.
ويملك الزعماء الصينيون مشاريع للتكامل الإقليمي العربي، ما يغذون به أحلام العرب وآمالهم، وذكرياتهم التاريخية مضافاً إليها حاجات تطور الصين ونهوضها الصاروخي. يتمثل ذلك في مشروع طريق الحرير التاريخي. فبكين تريد أن يمتد هذا الطريق مرة أخرى من أراضي الصين إلى رحاب أوروبا مروراً بالقارتين الآسيوية والإفريقية. وتمتد الطريق على ثلاثة محاور كبرى: الأول إلى الشمال الذي يخترق أراضي جمهوريات آسيا الوسطى وجزءاً من الأراضي الروسية. والثاني إلى الجنوب الغربي المحور الذي يخترق أراضي تايلاند والهند، والثالث المحور الجنوبي في البلاد العربية.
ولقد أمسكت الامبراطوريتان الأموية والعباسية بين القرنين الثامن والثاني عشر بهذا الجزء من الطريق، وحولتاه إلى ممر أسطوري لشتى أنواع البضائع التي كانت تتنقل بين أوروبا وآسيا آنذاك، والى مصب لثروات كبرى تجمعت في بغداد التي ربما كانت أهم عاصمة من عواصم التجارة والأعمال وقتها. لن تتكرر مثل هذه الأحوال لأن بكين اقترحت في ورقتها حلاً على الجميع وليس على الصينيين أو على العرب فحسب، وإنما على سائر من يستفيدون من الطريق. والاقتراح الصيني هو أن توزع الأرباح (اربح-اربح) على الجميع بحيث يكون هناك النفع المتبادل بين الجميع، بدلاً من أن تحال الأرباح إلى القوي والخسائر إلى الضعفاء. وقد يجد البعض أن هذه المشاريع هي أقرب إلى الأحلام أو الآمال منها إلى الواقع. ولكن الصين لا تسبح في الأوهام بل تنفذ مشروعات وبرامج تنموية كبرى على الأرض. بذلك تمكنت بكين من إنقاذ عشرات الملايين من البشر من أسر الفقر. ولعل بكين تقرأ اليوم في ورقة السياسة العربية ما يعينها على تقديم حل للحروب المجنونة التي تجتاح المنطقة العربية. من دون هذا الحل قد لا يكون هناك طريق ولا يكون هناك حرير.
0 3 دقائق