نون والقلم

الخلاف على الأسماء تهديد للسلام

أتفهم الكثير من الانتقادات التي عادت تنهمر على إدارة الرئيس باراك أوباما وبخاصة على سياستها الخارجية. كانت نية الرئيس الأمريكي.. ولعلها لا تزال قائمة، التركيز على آسيا، وبشكل خاص على شرق آسيا. افترضت الإدارة الأمريكية أن الشرق الأوسط إقليم أزمات مستدامة، وأن الانخراط فيها أو الانشغال بها قد يسبب مزيداً من تبديد إمكانات القوة الأمريكية و بخاصة إمكاناتها المعنوية وبالأحرى الإمكانات الناعمة.
واضح لي أن الحيرة والتردد عادتا لتشوهان صورة السياسة الأمريكية. ثبت أن أسلوب القيادة من الخلف لم ينفع في استعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط. بل على العكس لعله تسبب في زيادة هائلة في قوة وعنف المنظمات الإرهابية وأفكار التطرف الديني والعصبيات القومية والطائفية. كذلك لم ينفع في وقف تدفق اللاجئين والمهاجرين ليس فقط إلى أوروبا بل إلى أمريكا الشمالية ذاتها. يصر بعض المحللين على أن هذه الإدارة تتحمل نسبة معتبرة من مسؤولية تدهور حال الأمن الجماعي الأوروبي، و انحسار ثقة الأوروبيين في مستقبل القارة وبخاصة ما يتعلق بمواجهاتها المحتملة مع القوة الروسية الصاعدة وطموحات فلاديمير بوتين الشخصية وتطلعات المؤسسة الأمنية الروسية.
من ناحية أخرى. لم تحصل دول آسيا على الاهتمام الذي وعدتها به إدارة الرئيس أوباما. تباطأ تنفيذ خطط نقل التركيز إلى آسيا. ولم تحقق علاقات أمريكا بدول الجوار الصيني إنجازاً ملحوظاً في مجالات الدفاع والأمن. بينما استمرت تتصاعد بوتيرة متسارعة استعدادات الصين في جميع قطاعات التسلح والتدريب والمناورات، وزاد من توتر الأوضاع في الإقليم إقدام الصين على إقامة جزر صناعية في بحر الصين الجنوبي والربط بين بعضها البعض فيما صار يشكل حدوداً إقليمية أوسع على حساب الحدود الإقليمية للدول الأخرى المطلة على هذا البحر. في الوقت نفسه استمرت الصين في تنفيذ خطتها نحو ربط اقتصادات هذه الدول بالاقتصاد الصيني وخلق درجة أعلى من الاعتماد المتبادل. لا يمكن تجاهل حقيقة تزداد وضوحاً بمرور الوقت وهي أن الصين أصبحت من دون شك تقود في آسيا في أكثر من مجال وموقع بينما أمريكا لا تزال معتمدة أسلوب القيادة من الخلف، رغم ما أصاب مصالحها وهيبتها الدولية من ضرر بسبب التمسك بهذا الأسلوب.
انشغالنا بأمور الشرق الأوسط جعلنا لا نلتفت بالقدر الكافي إلى أمور الشرق الأقصى. أتحدث هنا عن المجتمعات الأكاديمية العربية من أساتذة علاقات دولية إلى مجالس للشؤون الخارجية إلى مراكز بحوث ودراسات. لم نهتم بتطورات العلاقات الصينية اليابانية أو بالتوتر المتصاعد في منطقة جنوب شرق آسيا، وبخاصة بين الصين من جهة ومجموعة الدول التي تتشارك في مياه بحر الصين الجنوبي. استخدم هنا متعمداً وبتكرار أيضاً متعمد اسم بحر الصين الجنوبي، باعتبار أن هذا التعبير في حد ذاته يتصدر الآن عديد القضايا المختلف عليها بين دول جنوب شرقي آسيا.
تلعب الأسماء دوراً مهماً في عدد من النزاعات الدولية، ولا شك أنه سيكون مثيراً متابعة عمل اللجنة المشكلة في الأمم المتحدة لدراسة قضايا ونزاعات الأسماء. نعرف أن الشعوب تتمسك بأسماء نشأت عليها فاستقرت في وجدانها. أذكر جيداً رد فعل أغلبية المصريين عندما تقرر استبدال اسم مصر بالجمهورية العربية المتحدة وتغيير علمها. أذكر أيضاً الرفض الشعبي الأرجنتيني المتواصل للتسمية البريطانية لجزر لاس مالفيناس في جنوب المحيط الأطلسي بجزر الفولكلاند. نعرف كذلك ما فعلته «إسرائيل» حين عبرنت أسماء كافة المدن والقرى العربية في فلسطين المحتلة. هكذا تمحى الأوطان من سجلات التاريخ وتسجل أوطان أخرى.
الصين، مثل غيرها من الأمم، تتمسك باسم بحر الصين الجنوبي لأسباب عديدة. هو الاسم الذي تداولته الأطالس الكبرى في العالم منذ مطلع العصر الحديث، وهو الاسم الذي يعزز «معنوياً» مكانة الصين الإقليمية ويؤكد للصينيين وشعوب الإقليم حقوق الصين التي تراها من وجهة نظرها حقوقاً مشروعة في جنوب آسيا. فضلاً عن أنه تمر من خلال هذا البحر نسبة كبيرة من تجارة آسيا الخارجية، وتقع عليه أضخم مخازن للسلاح ومرافئ للغواصات والأساطيل. من شواطئ الصين المطلة على هذا البحر خرجت أكبر حملة استكشافية في تاريخ امبراطوريات الصين ووصلت إلى إفريقيا وتخرج منها الآن قوافل التجارة في جهد جديد لإحياء طريق الحرير وتنويع مساراته وأهدافه بما يتفق وطموحات الصين الكونية. لن تغني مشروعات مدّ السكك الحديدية والطرق البرية عبر أوراسيا عن بحر الصين الجنوبي وعديد المواني التي تنشئها الصين أو تساهم فيها في دول جنوب آسيا وشرق إفريقيا.
ارتفعت في الشهور الأخيرة وتيرة مطالبة بعض الدول الإقليمية تغيير اسم بحر الصين الجنوبي.. تقترح فييتنام، الخصم اللدود للصين تاريخياً وحالياً، أن يحل محله اسم بحر جنوب شرقي آسيا، ليكون الاسم الجديد دالاً على «وحدة إقليمية مرجوة وتكامل وسلام وأمن متبادل وسياسات حسن جوار». الصين ترفض وتصر على التمسك بالاسم الذي عرفه العالم على مرّ القرون الحديثة ورسخ في ذهنية الشعب الصيني. لم تدع الدبلوماسية الأمريكية الفرصة تمر دون أن تتدخل. تعرف الولايات المتحدة أن الاسم وإن كان رمزاً لا أكثر ولا أقل. إلا أن خلافاً بشأنه في ظل حالة التطرف القومي السائدة في الإقليم قد يتسبب في تسخين الأجواء وإثارة مشكلات أمام محاولتها التوصل إلى صيغة تضمن تقييد فرص الصين في فرض هيمنتها، وفي الوقت نفسه الاستعداد لإقامة منطقة التجارة عبر الباسيفكي، التي هي في حقيقة الأمر حلم أمريكا للعقود القادمة. لذلك اقترحت أمريكا أن يطلق على البحر اسم «بحر الجنوب» مستندة إلى أن أطالس الصين التاريخية اختارته اسماً لهذا البحر. تخشى أمريكا أنه إذا انفتحت من جديد سيرة الأسماء الجغرافية فلن يكون من السهل وقفها قبل أن تتسبب في أزمات إقليمية ودولية شديدة التعقيد. كوريا مثلاً تطالب بتغيير اسم بحر اليابان، روسيا واليابان يرفضان تقديم أي تنازل في النزاع الناشب حول اسم شبه جزيرة في أقصى شرق القارة. أتصور أننا سوف نشهد في السنوات القليلة القادمة جدلاً حول تسمية أنهار وبحار وجبال وأراض شاسعة، مثل القارة الجليدية، من المتوقع أن تخضع لاقتراحات بالتغيير وإعادة التسمية، أو أسماء جديدة. هنا في الشرق الأوسط، يجب أن نتوقع مع التسويات الجاري الاستعداد لها أسماء ليس فقط لدول جديدة، بل وربما لشعوب تقرر لنفسها أن تختار صفات وهويات وأسماء جديدة أو تترك غيرها يختارون لها.
في غياب قيادة واعية ومتفرغة لنظام دولي يموج بشتى أنواع النزاعات وبعضها نزاعات مبتكرة أو مركبة أو ناشبة لأسباب في أحسن أحوالها رمزية كالرغبة في تغيير أسماء وفي أسوأها واهية، يصعب وضع تصور لخريطة تتضح فيها ملامح لمستقبل الأمن والسلم في العالم ككل وفي أقاليم بعينها كالشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا.

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى