اعتمد الرئيس التونسي الباجي القائد السبسي أسلوباً دفاعياً في رده على الاحتجاجات الاوسع منذ الثورة عام 2011. وفي خطاب لم تخلُ لهجته من الحدة، اتبع السبسي استراتيجية مزدوجة باعتباره «انتفاضة العاطلين» التي تمددت في انحاء البلاد، نابعة من مشكلة مزمنة ورثتها حكومة «نداء تونس»، محملاً في الوقت ذاته مسؤولية تأجيج الاوضاع الى «اياد خبيثة» دخلت على خط التظاهرات.
في المقابل، كان رئيس الوزراء الحبيب الصيد أكثر صراحة بحديثه عن الاحتجاجات، في تأكيده تمسك حكومته بالديموقراطية الناشئة وخيار الانتقال الديموقراطي الذي تجدد الحديث عنه وسط تساؤلات عما اذا كانت التطورات في البلاد توحي بالعودة الى مرحلة اعادة انتاج السلطة او تصحيح مسار الثورة.
كانت النخبة السياسية في تونس سعت غداة الانتخابات في خريف 2014 الى تأكيد دفن المرحلة الانتقالية باعتبار ان الاستحقاق الديموقراطي الذي أنجز بعد اعتماد دستور جديد، اعطى غالبية لحزب «نداء تونس» مكنته من التفرد بالحكم، لتنتقل حركة «النهضة» الاسلامية بذلك الى مقاعد المعارضة، راضية بخيار الناخبين.
لكن تجدد احتجاجات العاطلين من العمل وتحولها الى اعمال عنف، اعاد الجدل حول ما اذا كانت الثورة انحرفت عن مسارها ولم تحقق التغيير المطلوب لجهة توسيع دائرة الاستفادة من الموارد لتشمل الفقراء وإيجاد دور للشباب في اعادة اعمار بلادهم ووضع خطط لحل مشكلة البطالة التي تطاول حوالى 700 الف منهم.
والواقع ان الطبقة السياسية في تونس انشغلت بتحديات عدة، لم يكن الارهاب عاملاً وحيداً فيها، بل لعل اهمها هو الانقسام في الحزب الحاكم الذي جعله يفقد الغالبية في البرلمان من دون ان يفقد السلطة … وذلك بخيار حركة «النهضة» التي فضلت النأي بنفسها عن التورط في الحكم وهي تعي حجم التحديات الاقتصادية وضعف الامكانات لمواجهتها.
لم تترك مواقف زعيم «النهضة» راشد الغنوشي مجالاً لاتهامه باستثمار ازمة «نداء تونس»، الناجمة عن صراع للسيطرة على الحزب، ادى الى اتهام السبسي بالسعي الى توريث نجله حافظ الزعامة.
لا بل ان الغنوشي لم يفوّت فرصة لإبداء تضامنه مع الحزب الحاكم في محنته، وذهب الى حد حضور مؤتمر «نداء تونس» قبل ايام، مجدداً بذلك قناعته بالدعوة الى المشاركة والتوافق في العمل السياسي.
سواء كان موقف الغنوشي انتهازياً ام لا، فإنه يحسب له ويثبت ايضاً تماسك حركته وانفتاحها على خصومها. صحيح ان الحكومات المتعاقبة على مدار 5 سنوات تتحمل مسؤولية التدهور المستمر في الأوضاع المعيشية وقد تكون مهمة تداركها ابعد من قدراتها، لكن النهج الذي اتبعه زعيم «النهضة» يهدف الى التنصل من اتهامات تكال الى السلطات بأنها انتظرت وقوع الكارثة لتركيز اهتمامها على المناطق المهمشة حيث يتصاعد الاستياء في صفوف العاطلين من العمل وبينهم حملة شهادات عليا.
لا شك في ان ما تمر به تونس ينم عن سوء تخطيط، ذلك ان معظم العاطلين المحتجين، يعزفون عن امتهان مهن يدوية بسيطة، ما يضطر أصحاب المؤسسات الى الاستعانة بأيد عاملة أجنبية. وفي وقت يوجد في تونس 1600 طبيب عاطل من العمل تقرر الحكومة استحداث كليات طب جديدة، ما يضاعف معاناة العاطلين في هذا القطاع.
لذا فإن كثيرين سيراقبون كيفية استفادة الحكومة من توزيع المساعدات الخارجية مستقبلاً، في شكل يحقق تقدماً في اتجاه حل الأزمة، ومن هؤلاء الغنوشي نفسه الذي ينتظر بدهاء وحنكة ان ينجح الآخرون او يفشلوا، الأمر الذي يصب في مصلحته في الحالتين.