نون والقلم

في مأثرة العروبيين اللبنانيين

المنطقة العربية اليوم في أمس الحاجة إلى الاستفادة من تجارب المصالحات والتوافقات الوطنية التي تمت بين الجماعات المتخاصمة والمتنازعة والمتحاربة في أي بلد من بلدان العالم. فهناك حاجة إلى معرفة أسباب تحول منافسات محدودة ومحلية إلى صراعات مفتوحة تستمر لأجيال ويسقط فيها عشرات ومئات الألوف من البشر.
وهناك حاجة إلى الاطلاع على العوامل التي تهدئ من حدة هذه الصراعات، وعلى كيفية بلورة استراتيجيات تحقيق هذه الغايات بما في ذلك خلق مناخ الثقة بين المتنازعين والمتحاربين، والطرق المناسبة لإقناعهم بدخول المفاوضات والأولويات الأنسب لكي تضمنها الجولات التفاوضية وكيفية انتقاء المشاركين في مساعي التوافق والتفاوض. هناك حاجة إلى مثل هذه المجهودات في الأقطار العربية التي يشتد فيها القتال مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن. ولكن هناك أيضاً حاجة إلى مثل هذه الجهود في أقطار أخرى تعاني مشاكل وتهديدات أمنية مثل مصر والجزائر وتونس ولبنان والسودان.
تأسيساً على ذلك فإنه عندما يتطرق مقال إلى مشاكل متعلقة بمسألة وحدة التراب الوطني في بلد عربي، فإنه يأمل أن يجد فيها ما يساعده على فهم الأحوال السائدة في منطقتنا والطرق المناسبة للخروج منها. وعندما يتطرق كاتب، كما فعل صقر أبو فخر في مقاله عن «العروبيين وانقلاباتهم» (السفير 10-12-2015) إلى تجربة «الميثاق الوطني اللبناني»، فإنه يقرأه آملاً في أن يجد فيه إجابات عن الأسئلة المطروحة أعلاه. ولكن خلافاً لهذه التوقعات، يجد المرء في المقال القليل مما يتصل بهذه الأسئلة من وقائع دقيقة واستنتاجات راجحة، والكثير ما ينتمي إلى عالم الاتهامات والتجنيات البائسة. وقد يقال هنا إنه لا بأس أن يكون لهذا الكاتب أو ذاك مثل هذه الآراء.
ولكن ما جاء في المقال يعكس وجهات نظر جهات مؤثرة في لبنان، واستمرارها في الأخذ بمثل هذه الآراء يساهم في الأضرار ببلد يمر في حالة لا حرب ولا سلم ويمتلك حساسية فائقة تجاه تجارب التاريخ ووقائع الوضع الراهن.
فمن الأخطاء «النموذجية» التي تضمنها المقال ما جاء فيه حول العلاقة بين مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني وحزب الاستقلال العراقي، إذ إن «المأنوس أن قيادة حزب الاستقلال في العراق أسندت إلى الحاج أمين الحسيني في سنة 1941». ولكننا نعلم كما يقول لنا الدكتور عبد الأمير هادي العكام في كتابه «تاريخ حزب الاستقلال العراقي»، إن الحزب العراقي تأسس عام 1946، وإنه حين تأسس لم يكن الحاج أمين في العراق، فكيف أسندت قيادة الحزب إلى المفتي؟ لعل أبو فخر يريد القول إن قيادة حزب الاستقلال الفلسطيني أسندت إلى المفتي عندما كان هو في العراق عام 1941. عندها يجب أن يقول الكاتب ذلك بوضوح كي لا يضيع القارئ بين الحزبين.
ويتضمن المقال كلاماً كثيراً عن قسطنطين زريق ولا ريب في أهمية المفكر الراحل وأهمية إسهامه بالفكر السياسي العربي. ولكنه بسبب أهميته فإنه ليس في حاجة إلى توظيف ذكراه ومآثره العديدة في غير محلها. فعند الحديث عن «المرحلة العراقية» من تاريخ الحركة السرية العربية، يتحدث المقال عن زريق وكأنه كان موجوداً في بغداد ومرافقا لنشاطها هناك بحيث يخيل إلينا أنه عندما شكل الحاج أمين لجنة سرية من عدد من الشخصيات العربية في العراق كان زريق موجوداً بينهم، وأنه عندما تشكلت كتلة الضباط الأربعة كان هو الذي تولى أمرها. هذا مع العلم بأن الكاتب يقول إن زريق غادر رئاسة الحركة والتزم بالصمت منذ عام 1939 أي قبل سنتين من وقوع هذه الأحداث.
لا يضاهي هذه الثغرات العديدة التي حفل بها المقال إلا الأوصاف الجارحة التي أغدقها على فئة الأعيان في بيروت. ويحمل أبو فخر هذه الفئة مسؤولية انتكاسة مشروع وحدة لبنان وسوريا خلال الأربعينات ويقول إنهم «ارتكبوا عاراً عندما تخلوا عن هذا المشروع». فأعيان بيروت تهربوا من الوحدة السورية خوفاً من احتكار تجار الشام لأسواقها، وكلامهم العالي عنها كان «مجرد استقواء على المسيحيين الذين أسس الكيان المسيحي من أجلهم»، ولقد «ظل هؤلاء الأعيان- كما يقول أبو فخر» يلوكون فكرة القومية، لا انتماء جدياً لها، بل طريقة في معارضة المارونية السياسية، لانتزاع المكاسب، فكانوا سوريين أحياناً، وعراقيين أحياناً أخرى، ثم تحولوا إلى ناصريين في عهد جمال عبد الناصر، والتجأوا إلى ياسر عرفات في عهد الثورة الفلسطينية.
يقتضي الإنصاف والدقة أن يفسر أبو فخر الأسباب التي دفعت من يدعوهم بأعيان بيروت ومسلمي الساحل إلى التراجع عن مشروع الوحدة السورية. كان السبب الأهم الذي دعا العروبيين اللبنانيين إلى التوقف عن هذه الدعوة هو حرصهم الشديد على ترحيل الانتداب الفرنسي وتحقيق استقلال لبنان بكامل أراضيه وفئاته ومكوناته. وكان هؤلاء يعرفون بأنه من دون تحقيق الوحدة الوطنية اللبنانية فسوف يكون باستطاعة الانتداب الاستمرار في قسم من أرض لبنان على الأقل وبدعم من سكانه على الأرجح. لقد كان الخيار ليس بين الوحدة السورية، من جهة، والانتداب من جهة أخرى، بل بين ضم قسم من الأراضي التي تضمنها الكيان اللبناني إلى سوريا وتحول بقية الأراضي اللبنانية إلى قاعدة لفرنسا في المشرق، وبين استمرار الكيان اللبناني بأبنائه من المسلمين والمسيحيين وجلاء فرنسا عنه. لقد آثر العروبيون اللبنانيون الحل الثاني خاصة بعد أن تكرست عروبة لبنان داخلياً وعربياً ودولياً.

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى