بعد فترة طالت من تجاهل دول الغرب، لما يجري في ليبيا، من تدمير، وتفتيت للدولة والمجتمع، والانتشار الإرهابي، وآخر مظاهره وصول عناصر من «داعش» إلى ليبيا، فقد جاءت تطورات التهديد المباشر لأوروبا، مما يجري في ليبيا، خاصة تواجد الإرهاب في مناطق ساحلية هي الأقرب إلى أوروبا، وبالتحديد إلى روما، كافية لجذب أنظار أوروبا إلى ليبيا.
من هنا أصبح مبدأ إقامة حكومة مركزية قوية، يلقى استجابة منها، وهو ما ساعد على توقيع اتفاق الصخيرات، بإقامة حكومة الوفاق الوطني، ولإخراج ليبيا من هاوية ألقت بها أطراف عديدة، لتجعل منها، أسوأ نموذج للدولة الفاشلة – وهو المصطلح الذي ظهر في الغرب منذ أكثر من عشر سنوات – بالرغم من ثراء ليبيا البترولي، والذي كان يمكن أن يجعل منها دولة متقدمة ومستقرة، وآمنة.
إن الحالة الليبية، التي عقدتها أطراف من داخلها، ومن خارجها، تستحق نظرة شاملة، من دون أي اجتزاء لأحداثها، خاصة وأن الأسباب التي دفعتها إلى هذه الحالة، قد سبق أن شهدتها دول أخرى في المنطقة.
والمسؤولية تتحملها ثلاثة أطراف رئيسية: أولها دول غربية باعتراف قادتها. وفي مقدمة الأخطاء، ما فعله حلف الأطلسي الذي شن غارات أسقطت حكم القذافي، ثم انسحابه السريع، تاركاً الفوضى تأخذ بخناق الدولة، من دون أن يسهم في إعادة التماسك للدولة التي تفككت أوصالها.
وكان أول اعتراف رسمي من لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان البريطاني، والتي بادرت بإجراء تحقيق في فشل سياسة الحكومة البريطانية في ليبيا.
وأيضا ما صرح به الرئيس أوباما لصحيفة «نيويورك تايمز»، من أن أكبر الأحداث التي يأسف بشأنها، في سياسته الخارجية، أنه لم يقم بجهد كاف عقب سقوط القذافي، وعدم إدراكه لمدى ما فعله القذافي، من تجريد المجتمع الليبي، من كل مظاهر الثقافة السياسية.
وكذلك ما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» في عدد من مقالاتها الافتتاحية، عن فشل الولايات المتحدة، في المساعدة على استقرار ليبيا، عقب سقوط القذافي، وأن ذلك تسبب في التصاعد الراهن لحالة عدم الاستقرار.
وكان العنصر الثاني فيما آلت إليه الأوضاع الليبية، هو القذافي نفسه، الذي حكم لمدة 42 عاماً، وبنظام دكتاتوري تسلطي، قمعت فيه الحريات، وطموحات المواطنين.
وكان طبيعياً أن يترتب عليه رد فعل شعبي رافض له، يأمل في استعادة كيان الدولة، كوطن له هويته. ولهذا نشطت حركة مقاومة داخلية، من مواطنين ومثقفين، وتكنوقراط، من بين قياداتها عبد الفتاح يونس، الذي كان زميلاً للقذافي ووزيراً لداخليته، ثم انشق عليه، إلى أن قتل يونس على يد جماعة من المعارضة، من فصائل ما يسمى بالإسلام السياسي، التي نشطت في التسعينات.
من هنا بدأت تظهر معالم انقسام بين دعاة الثورة من أجل الدولة، والذين وضعوا على قمة أهدافهم، السطو على الدولة لحسابهم، وليعيدوا إليها نموذجاً آخر من نماذج حكم الفرد أو الجماعة، وإقصاء الشعب وتاريخه، وطموحاته.
وكانت تلك بذرة الفوضى اللاحقة، والتي ظهرت بوضوح أكثر، عندما تولى المعارض محمود جبريل رئاسة المجلس الانتقالي الوطني بعد الثورة، وبدأ في إقامة فرق للتخطيط، لاستعادة النظام الحكومي، والأمني، والاقتصادي، بالتنسيق مع وكالات الأمم المتحدة، فسارعت جماعات الإسلام السياسي، إلى وضع العراقيل أمامه، حتى لا يواصل مهمته.
في هذه الأجواء بدأت تنشط فصائل متنوعة من جماعات الإسلام السياسي، والتي كان ظهورها في فترة الثورة وما بعدها. وبرزت منها في البداية ثلاث مجموعات هي: «الإخوان المسلمون»، الذين عاشوا في المنفى في فترة حكم القذافي، ثم عادوا وهم يسعون ليكونوا شركاء في حكم ليبيا الجديدة.
وكذلك أعضاء سابقون في «جماعة الجهاد الإسلامي» الليبية، والذين عادوا إلى ليبيا من أفغانستان، التي قاتلوا فيها ضد السوفييت إلى جانب ابن لادن، وكان تركيزهم على الفوز بمناصب مهمة في الحكومة.
كذلك الجيل الأصغر الميال للعنف المفرط ممن سمّوا بالسلفيين الجهاديين، والذين أسسوا «جماعة أنصار الشريعة»، التي غيرت انتماءها فيما بعد ليصبح جزءاً من «داعش»، هذا بالإضافة إلى جماعات أخرى تسير في نفس الاتجاه.
وكلهم يجمعهم هدف مشترك وهو منع قيام حكومة وطنية، والحيلولة دون استعادة الدولة استقرارها، ونشر الإرهاب في ليبيا، وامتداده إلى دول الجوار.
إلى أن تطور موقف دول الغرب، والاتجاه لمساندة قيام حكومة مركزية توافقية، مدفوعة بشعورها، بالخطر الذي يهددها، لو استمرت الفوضى، والانقسامات، فكان اتفاق الصخيرات وهو خطوة ينبغي أن تحاط بالرعاية، وتنال دعم المجتمع الدولي بكامله.
وحتى يكون الخروج من المحنة الليبية، تجربة تعيها دول أخرى، وتستخلص منها الدرس المستفاد، وهو أن بداية السقوط في وهدة الدولة الفاشلة هو نظام حكم فردي يصادر الوطن لحسابه، وهو ما يفتح الباب لأية قوى خارجية، لكي تكمل ما بدأت أطراف داخلية في زرع بذرته الفاسدة في أرض الدولة.