قبل سنين طوال خلت يصح معها القول: في سالف الأزمان.. كانت الدول التي تعترض على التطرف الصهيوني تتمثل في الصين والاتحاد السوفييتي والهند مثلًا. دول كبيرة تعترض على الدعم الأمريكي غير المحدود للكيان الصهيوني بما يشجع هذا الكيان على التطرف والتنكر للقرارات الدولية وإنكار حقوق الآخرين.
الآن تغير الزمن وأصبحت الدول المساندة للحق الفلسطيني والمعترضة على الصلف الصهيوني تتمثل في الأوروغواي والبرازيل وفنزويلا والسويد مثلا. بالنسبة للدول الإسكندنافية الأخيرة فقد دأبت للحق على انتقاد الاحتلال الصهيوني منذ عقود، وأبدت احتراماً لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم منذ سبعينات القرن الماضي. ليست السويد دولة كبيرة بمقياس الثروات الطبيعية والبشرية أو المساحة الجغرافية أو التعداد السكاني أو الموقع الاستراتيجي، ولكنها دولة ذات إشعاع على مستوى رفاهية شعبها وعلى مستواها الصناعي المتقدم وعلى صعيد سياستها الخارجية المستقلة وغير المصطدمة بطبيعة الحال مع السياسة العامة للاتحاد الأوروبي التي تحظى بعضويته، لكنها متميزة ضمنه وداخله.
معلوم في تاريخ القضية الفلسطينية أن عصابات صهيونية اغتالت مبعوثاً أممياً في القدس هو الكونت فولك برنادوت في سبتمبر/أيلول عام 1948 وقبل رحيل القوات البريطانية عن فلسطين، وكان من توصيات برنادوت آنذاك وضع القدس تحت إشراف دولي. المبعوث الأممي المغدور سويدي الجنسية ورئيس جمعية الصليب الأحمر في بلاده، وسليل الأسرة السويدية المالكة. ومع اعتراف عصابة شتيرن بقتل المبعوث، فقد حظرت السويد دخول اسحق شامير أحد زعماء تلك العصابة إلى الأراضي السويدية. وبذلك نشأت حالة جفاء عميقة بين استوكهولم وتل أبيب، واكبت نشوء الدولة الصهيونية وباتت جزءاً من الوعي السويدي.
بين زعماء العالم يستذكر العرب والفلسطينيون أولف بالمة رئيس وزراء السويد في العام 1969 والذي أبدى انفتاحاً مبكراً نسبياً على الحقوق الفلسطينية والذي اغتيل في ظروف غامضة عام 1986 فيما رجحت السلطات في بلاده قيام جماعة يمينية متطرفة بالجريمة نظراً لانفتاح الرجل آنذاك على المعسكر الاشتراكي وعلى موسكو.
منذ أسابيع تتخذ «تل أبيب» من وزيرة خارجية السويد عدواً. الوزيرة مارغوت وولستروم اعتبرت بعد هجمات باريس أن استمرار الاحتلال «الإسرائيلي» يوفر بيئة للتطرف ويغذيه، وهو ما أثار جنون الزعماء الصهاينة، علماً بأن الربط بين نشوء التطرف واستمرار الاحتلال، هو موقف دأب العديد من الزعماء في العالم على الجهر به في سنوات ماضية، أما الآن فيحلو للبعض الربط بين التطرف والإسلام كدين، أو بين التشدد وتيار إسلامي سياسي بعينه، دونما توسيع النظرة لتشمل البيئة السياسية المختلة في الشرق الأوسط منذ عقود. ثم تجدد السعار الصهيوني حينما اعترضت رئيسة الدبلوماسية السويدية على جرائم القتل بدم بارد التي ترتكبها قوات الاحتلال خارج القانون ضد ناشطين وضد أبرياء عُزّل يتم التشكك بنواياهم. الوزيرة وولستروم استندت إلى تقارير دولية في موقفها هذا وبالذات إلى تصريحات المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان زيد بن رعد الذي أكد في تقرير أممي أن الرد «الإسرائيلي» لم يكن متناسباً مع اعتداءات مزعومة، وأن أعمال قتل «ربما تكون قد ارتكبتها القوات «الإسرائيلية» تجاه مدنيين فلسطينيين».
«تل أبيب» سعت لاستفزاز السويد بالإعلان عن رفض استقبال الوزيرة وولستروم وأي وزير في الحكومة السويدية، الاستفزازات الصهيونية قوبلت بتجاهل وحتى باستخفاف في استوكهولم التي لم تغيّر من مواقفها.
من الملاحظ أنه رغم وجود شرائح في المجتمع السويدي تؤيد الكيان الصهيوني، إلا أن الحركة الصهيونية لم تنجح على مدى عقود في إنشاء لوبي صهيوني في السويد. علما بأنه لا يوجد أيضاً لوبي عربي أو فلسطيني في ذلك البلد الأوروبي، ولا في أي بلد غربي آخر، يمكن أن يفسر وجوده الموقف الإيجابي السويدي. ومن الملاحظ أن مواقف استوكهولم هذه لم تلق للأسف ما تستحقه من اهتمام وتفاعل إيجابي في العالم العربي، باستثناء المواقف الفردية التي يتم التعبير عنها على مواقع التواصل الاجتماعي. وزارة الخارجية الفلسطينية المعنية بالأمر رحبت بالموقف السويدي الذي وصفته ب«الشجاع والإنساني»، ودعت كافة الدول إلى تبنيه وعلى الخصوص دعم مطالب وزيرة خارجية السويد بفتح تحقيق دولي في «ارتكاب «إسرائيل» جرائم خارج القانون». ووصف البيان الحملة الصهيونية على المسؤولة السويدية بأنها «ترتقي إلى إرهاب دولة».
يذكر أن الوزيرة وولستروم سبق أن عملت في مناصب رفيعة في الاتحاد الأوروبي كمفوضة لشؤون الاتصال ولحقوق الإنسان، وقد جاءت مواقفها بعد مواقف أوروبية ضد استيراد منتجات مستوطنات صهيونية في الأراضي المحتلة، لكن الاتحاد القاري (وبالذات مفوضية الشؤون الخارجية) نأى بنفسه حتى الآن عن التهجمات الصهيونية على مسؤولة في إحدى الدول الأعضاء. وما دامت العلاقات الدبلوماسية بين استوكهولم وتل أبيب لم تتزعزع بعد، وتقتصر على استدعاء السفير السويدي في «تل أبيب» للتوبيخ! فالاتحاد الأوروبي لا يعتبر تبعاً لذلك أن هناك مشكلة سياسية حادة تستدعي اتخاذ موقف جماعي كما أن السويد نفسها لم تطلب وحتى تاريخه التعبير عن موقف تضامن معها.
ورغم غياب تفاعلات سياسية ذات شأن مع الموقف السويدي فإن هذا الموقف يبقى محتفظاً بإشعاعه المعنوي والأخلاقي الثابت، وبما ينطوي عليه من جرأة وشجاعة في إدانة السلوك الصهيوني، ورفض أي ابتزاز يحظر نقد هذا السلوك.
39 3 دقائق