عن الفيلسوف الفرنسي ﭘــول ريكور (1913-2005) أَنّ “الأَفراد قد يغفِرون لبعضهم بعضًا، أَمّا الشعوب فلا تغْـفِـر، لأَنّ في جِراحها ذكرياتٍ قاسيةً لا تَـنسى”.
ينطلق هذا الكلام من الذاكرة التي بها يكونُ نسيان أَو غفران.
فالذاكرة الفردية، لظَرفٍ أَو مناسبةٍ أَو وَضْع خاص، يمكن أَن تَـمُـدَّ اليد للمصافحة أَو لـلِّقاء أَو لِـطَيّ صفحةِ أَمسٍ أَو ماضٍ قريبٍ أَو بعيد، فتُلغي ثأْرًا أَو تمحو انتقامًا أَو تغسِل حقدًا وتفتح صفحة جديدة لعلاقة فردية.
أَما الذاكرة الجَماعية فلا سبيل إِلى غفرانها أَو طَيّ صفحةٍ من تاريخها الموجِع القاسي، لأَن في هذه الذاكرة أَصواتَ الموتى والمظلومين والجائعين والـمُـنَـكَّل بهم، وذكرياتٍ لا يمكن أَن تنساها الذاكرةُ الجَماعية أَو تَــتَــناساها، بل تنقلُها من جيلٍ إِلى جيل وتُـذَكِّر بها كلَّ جيل جديد يرثُ طلّابَ العدالة من الظلم والقتل والقهر، فعدالة الشعب تظلُّ تَلعنُ الحاكمَ الطاغية.
هكذا، على صورة الشعوب في ما كان بينها إِبّان الحروب وبعضُها في ما لا يزال يكون، نَـقرأُ ما كان بين اليهود والأَلمان، وما لا يزال يكون بين الفلسطينيين واليهود، كما الذي بين الأَرمن والأَتراك، والجزائريين والفرنسيين، والهنود الحمر والأَميركيين، أَو ما كان من إِباداتٍ جَماعيةٍ ومجازرَ داميةٍ داخلَ البلد الواحد: في راوَندا مثلًا قبل عقدَين، وما يماثلها اليوم في اليمَن وسوريا والعراق.
هذه “الهولوكوستات” الاجتماعية أَو السياسية أَو الدينية أَو الإِتنية، منذ سـﭙـارطة وما قبلَها وما بعدَها، ومع ظهور الأَديان وما رافقَ مطالعَها من اضطهاداتٍ ومعاركَ لـتـثـبـيـت الدين الجديد ومحاربة مَن لا يعتنقُونه أَو مَن يناهضونه، تبقى حوادث تاريخيةً تسجّلها الذاكرةُ الجَماعية وتحفظُها ولا يمكن أَن تنساها أَو تغفِرَ تردُّداتها ومضاعفاتها ونتائجها على الزمن.
اللافت أَن اتفاقات الأَنظمة أَو القرارات الدولية أَو الأُممية (الأُمم المتحدة مثلاً) تتعاطى في شؤُون الدول من المنظار السياسي، لكنها لا يمكن أَن تفرض على الشعوب النسيان أَو الغفران. فجراح الشعوب لا يمحوها قرارٌ أُمَـمِيّ ولا اتفاقٌ دُوَلي ولا ما يشابههما، لأَن جراح الشعوب لا تَنسى ولا تَندمل ولا تيأَس من استرجاع الفواجع والمآسي وصرخات الشهداء والقتلى والمظلومين والمكسُورين والمهجَّرين والجائعين إِلى رغيفِ خبزٍ أَو جُرعة حليبٍ لطفلٍ يموت جوعًا على ذراعَي أُمّه المحتضرة بجسمٍ برزَت أَضلاعه من ضنى الإِنهاك.
اتفاقُ دولتَين لا يَعني حُكْمًا شعبَيهما، وسيبقى الحاكمُ الطاغيةُ في كلّ عصرٍ مَـحَـطَّ حقْد تاريخيّ يُلاحق ذِكْرَه وسلالَتَه حتى آخر قبرٍ، موصومةٌ على شاهِدَتِه لعنةُ الذاكرة الجَماعية.