نون والقلم

في ذكرى 14 يناير

قبل خمس سنوات كان التونسيون يطالبون بإسقاط حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، باعتباره حزباً طاغياً، وحزباً مهيمناً على كل مقدرات الدولة، وآليات اشتغالها. وفي مثل هذا اليوم 14 يناير/كانون الثاني، وحين امتلأ شارع الحبيب بورقيبة، ربما للمرة الأولى في تاريخه بالآلاف من المواطنين، لم تكن الشعارات المرفوعة تطالب برحيل ابن علي فقط، بل كانت الأصوات ترتفع مطالبة بحل التجمع باعتباره جزءاً من تفكيك النظام القديم.
المتتبع لأحداث الثورة فيما بعد، سيلاحظ أن مطلب فصل الحزب عن الدولة كان قائماً، ولم يتم التراجع عنه، لأن الأحزاب التي أمسكت بالدولة بعد الثورة حاولت أن تجعل من أحزابها هي المتحكمة في الدولة، ووقعت الكثير من المحاولات لاستنساخ تجربة التجمع في هيمنته على مفاصل الدولة.
هيمنة، منذ حكومتي الترويكا وصولاً إلى الائتلاف الحاكم الآن والذي يقوده حزبا «نداء تونس» و«حركة النهضة» في مرتبة أولى و«حزب الاتحاد الوطني الحر» و«آفاق تونس» في مرتبة ثانية، تتكرر محاولات هيمنة الحزب على الدولة.
واتضح ذلك في حالات أثارت كثيراً من الجدل السياسي والإعلامي. وتلك الحالات تثبت أن الأحزاب مهما اختلفت رؤاها وتوجهاتها، ومهما ادعت من امتلاكها لمشاريع حداثية، فإنّها حينما تمسك بالسلطة سرعان ما تعود إلى طبيعة الهيمنة على كل مفاصل الدولة. فمنذ خمس سنوات والنخبة السياسية تسعى إلى تركيز أسس الجمهورية الثانية، من خلال إرساء دستور جديد، والفصل بين السلطات وتركيز الهيئات الدستورية، ومن خلال تنظيم انتخابات تحقق أعلى شروط النزاهة والشفافية. ولكن كل هذا لا ينفي أن الممارسة السياسية في تونس خلال هذه السنوات التي مرّت، تحمل في طياتها الكثير من أحلام الهيمنة على مفاصل الدولة وعلى السلطة التنفيذية، ولو كان الأمر متاحاً للأحزاب المنتصرة في انتخابات 2011 أو في انتخابات 2014، لما تركت الفرصة تضيع حتى تبسط نفوذها على كل السلطات. غير أن الرقابة متعددة الأطراف التي يمارسها الإعلام والمجتمع المدني قلصت من أحلام الهيمنة وكانت جدار صدّ أمام تلك الرغبات.
لعلّ أكثر موضوع يفضح رغبات الدمج بين الحزب والدولة بعد الثورة، كان ذلك المتعلق بالتسميات في كل المناصب السياسية مثل الولاة والمعتمدين، والمناصب الإدارية العمومية الكبرى، ولعل أهمها منصب محافظ البنك المركزي. الجميع يذكر أن الرئيس السابق المنصف المرزوقي كان قد فرض على حلفائه في الترويكا، إقالة المحافظ السابق مصطفى كمال النابلي وتعويضه بالشاذلي العياري، لا على مبدأ الكفاءة بل لأسباب تتعلق بخلافات بين النابلي والمرزوقي، وهذا يعني أن معيار الكفاءة لم يكن هو المعيار الأول في التسمية في منصب بحجم منصب المحافظ المركزي. والجميع يذكر أن التسميات في المناصب القيادية في الجيش الوطني التي أقدم عليها المنصف المرزوقي، في مدة من الفترات، كانت أيضا، تعبيراً عن رغبة ذاتية في تعيين مقربين منه في جهاز حساس مثل الجيش. وعند تولي مهدي جمعة، بعد مسلسل الحوار الوطني المعقد كان من بين الملفات التي كلّف بها هي تحييد الإدارة، بمعنى إعادة التسميات في كل المناصب السياسية والإدارية التي وقعت في عهد حكومتي الترويكا الأولى والثانية.
وقد أثارت القرارات التي اتخذها مهدي جمعة آنذاك والمتعلقة بتغيير التسميات في أسلاك الولاة والمعتمدين وبعض الإدارات العامة، غضباً في أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل بدرجة أقل، لأنهم اعتبروها عملية «تصفية» لإطاراتهم التي تم تثبيتها في الإدارات والمؤسسات العمومية. ذات الأمر تكرر في التسميات التي أقدم عليها الحبيب الصيد عند إجراء حركة في سلكي الولاة والمعتمدين، إذ احتجت أحزاب النهضة والاتحاد الوطني الحر وآفاق تونس، وحتى حزب النداء على ما اعتبروه ظلماً لهم، وتحييداً لإطاراتهم من تقلد مناصب وظيفية في الدولة. وهذا يعني أن هذه الأحزاب لو كانت لها القدرة على فرض التسميات لما تأخرت ولسيطرت على كل المناصب في تكرار لتجربة الترويكا السابقة وفي تكرار لتجربة حزب التجمع المنحلّ.
رغم أن الحديث عن موضوع التحوير الوزاري قد بدأ الحديث عنه منذ نحو شهرين، إلاّ أن الواضح أن الحكومة في صورتها وهيكلتها الجديدتين، لن تخرج من منطق فرض إرادة الحزب على الدولة. وهناك أكثر من قرينة دالة على أن التحوير الوزاري الجديد، هو مرتبط بهيمنة الأحزاب على الحكومة، التي تعد مستقلة.

تأخير التحوير، تم تفسيره برغبة من نداء تونس في إرجاء الإعلان عنه حتى تتضح نتائج المؤتمر الذي عقد نهاية الأسبوع الماضي في مدينة سوسة. وهذا يعني أن «الندائيين» الذين يرفعون شعار الدولة فوق الجميع وهي الأولوية، وهي قبل مصلحة الأحزاب، لا يترجمون ذلك على أرض الواقع عندما يتم تقديم مصلحة الحزب على مصلحة الدولة. غير أن التحوير الذي أعلن عنه مساء الأربعاء الماضي، عبّر بشكل واضح عن أنّ الأحزاب قد ضغطت في اتجاه أن تكون الحكومة حزبيّة، وأن كل حزب استأثر بوزارات، لينفذ فيها برامجه كما يعلنون، وكأن الحكومة هي مجموعة برامج حزبية، ولا تملك برنامجاً موحّداً.
– بعض أحزاب الائتلاف الحاكم، بدأت تفتي في العلن بأن هذا الوزير لا يصلح، وهذا الوزير قد فشل في مهمته، وهذه الأحزاب باتت تعطي فكرة سيئة عن كيفية إدارة الشأن السياسي، ودون وعي منها هي تستعيد منطق الهيمنة، لأنها تطلب إقالة هذا الوزير وتطالب بتسمية بعض من قيادتها في مناصب وزارية معينة، وإلا فإنها تهدد بالخروج من الائتلاف الحاكم. وكأن رئيس الحكومة الحالي لا دور له في اختيار من يراهم مناسبين لفريقه الحكومي.
– بعض الأحزاب الأخرى في الائتلاف الحاكم، ودون ضجيج إعلامي، طلبت من رئيس الحكومة أن تكون التسميات الجديدة مناسبة لحجمها في البرلمان، وأن يتم الأخذ بعين الاعتبار وزنها الشعبي والانتخابي، وغير ذلك قد يدفعها إلى مراجعة مواقفها من الحكومة.
الجانب الآخر الذي يتضح فيه، فشل النخبة السياسية في الفصل بين الحزب والدولة هو مسألة التسميات في الهيئات الدستورية، وقد شهدنا نزاعاً واضحاً بين الأحزاب على الأسماء التي تم اقتراحها لتكون ضمن الهيئات الدستورية التي وقع الاتفاق عليها. فهيئة الحقيقة والكرامة تمثل أفضل عنوان للنزاع الحزبي، وهيئة الاتصال السمعي البصري شهدت أيضاً فصولاً من ذلك النزاع، وينتظر أن يشهد المجلس الأعلى للقضاء فصولاً من صراع التسميات الحزبية. وهذا يعني في الملخص أن الأحزاب السياسية لم تستطع التخلص من إرث كبير عنوانه هيمنة الحزب على الدولة.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى