على الرغم من ابتذال (مرشح الرئاسة الأمريكي) دونالد ترامب، وفجاجته وعنصريته، وتحامله المفرط، لا يزال قادراً على رؤية مدى رداءة وسائل الإعلام الأمريكية السائدة.
وأحد الأسباب الرئيسية لشعبية دونالد ترامب، في اعتقادي، هو أنه يقول ما يخطر بباله، وأنه يعني ما يقول، وتلك خصلة نادرة جداً بين الساسة الأمريكيين، أو ربما بين الساسة في أي مكان في العالم. لقد سئم الجمهور الأمريكي وملَّ الإجابات الزائفة المُرائية التي يعطيها أصحاب المناصب على اختلاف صنوفهم.
عندما أجريت مقابلة مع «ترامب» من قِبل شبكة تلفزيون «إيه بي سي»، سأله مقدّم البرنامج، جورج ستيفانوبولوس، وهو مساعد سابق للرئيس بيل كلنتون: «عندما ضُيِّق عليك الخناق في الأسئلة عن قتل (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) للصحفيّين، قلت: «أعتقد أن بلادنا أيضاً تقوم بكمية وافرة من القتل. ما الذي كنت تعنيه يومئذٍ؟ ما القتل الذي أباحته الولايات المتحدة يشبه قتل الصحفيين»؟
ردَّ ترامب قائلاً: «بكل الإنصاف لبوتين، أنت تقول إنه قتلَ أناساً. أنا لم أرَ ذلك. ولا أعرف أنه فَعَل. هل تستطيع إثبات ذلك؟ هل تعرف أسماء الصحفيين الذين قتلهم؟ لأنني، أسمع عن ذلك.. وأنت تسمع عن ذلك، ولكني لم أرَ الأسماء. أعتقد أنه سيكون عملاً خسيساً لو حَدَث، ولكنّي لم أرَ أيَّ دليل على أنه قتل أحداً من الصحفيين».
وكان بوسع ترامب، أن يسبّب لستيفانوبولوس نوبة قلبية حقيقية بإعلانه أن الجيش الأمريكي، على مسار حروبه في العقود الأخيرة، كان مسؤولاً عن عمليات القتل المتعَمّد لكثير من الصحفيين. في العراق، على سبيل المثال، هنالك لقطات الفيديو التي نشرها موقع ويكليكس عام 2007، والتي كشفتها تشيلسي مانينغ، عن القتل بدم بارد، لصحفيّيْن من وكالة رويترز، والهجوم الأمريكي عام 2003، بصواريخ جوّ- أرض على مكاتب تلفزيون الجزيرة في بغداد، الذي خلّف ثلاثة صحفيّين قتلى، وأربعةً جرحى، وإطلاق النار الأمريكية على فندق فلسطين في بغداد في العام ذاته، الذي قتل مُصوِّريْن صحفيّيْن أجنبيّين.
كانت تلك المحاورة، هي التي سمح فيها ستيفانوبولوس لما يلي بأن يخرج من بين شفتيْه: «ولكنْ، أي قتلٍ قامت به حكومة الولايات المتحدة؟»
ألا تُجْري شبكات التلفزيون الأمريكية أي اختبار فكري لمذيعي الأخبار فيها؟
لعلَّ اختباراً في مستوى الصف الرابع الابتدائي، من شأنه أن يُحسِّن الأمور.
مذيع الأخبار البارز في شبكة «إم اس إن بي سي»، جو سكاربورو، أيضاً، حيَّره تقبُّل ترامب- خلال مقابلةٍ معه- لبوتين، الذي كان قد امتدح ترامب، قائلاً إنه «لامعٌ وموهوب». قال سكاربورو، إن بوتين «أيضاً شخصٌ يقتل الصحفيين، والمعارضين السياسيّين، ويغزو الدول. ومن الواضح أن ذلك يثير القلق، أليس كذلك؟».
بوتين «يغزو الدّول»… كان من شأن هذا السؤال أن يحيّرني أنا أيضاً، فأنا أقدح ذهني فلا أعثر على بلدٍ غزته الولايات المتحدة. (يقول الكاتب ذلك ساخراً بطبيعة الحال، إذ احتوت كتُبه على قوائم طويلة شاملة بعمليات الغزو والتدخل الأمريكية، بما في ذلك كتابه: «قتل الأمل: تدخلات الجيش الأمريكي والسي آي إيه منذ الحرب العالمية الثانية»).
ردّ ترامب قائلاً في جوابٍ يستحق الاحترام: «أعتقد أن بلادنا كذلك، تقوم بالكثير من القتل، كما تعلم. هنالك الكثير من الحماقة في العالم حالياً. كثير من القتل يجري، وكثير من الحماقة. هذه حال الأمور». أمّا بالنسبة إلى قتل بوتين للمعارضين السياسيين، فإن هذا أيضاً يمُر مرور الكرام في وسائل الإعلام الأمريكية السائدة في العادة. ولكنّي أعددتُ في وقت سابق من هذا العام، قائمة بسبع حالاتِ وفاةٍ مثيرة لشبهة شديدة، لمعارضين للحكومة الأوكرانية، وهو النظام الذي أوصلته الولايات المتحدة، إلى السلطة، وتستخدمه هراوةً ضدّ بوتين. ولكنّ ذلك بطبيعة الحال، لا يشكل أخباراً تُذكر في وسائل الإعلام الأمريكية.
كما في أيام الحرب الباردة الأولى، تكمن إحدى المشاكل الأساسية، في أن الأمريكيين الاستثنائيين يجدون صعوبة كبيرة في أن يُصدّقوا أن الروس يملكون نوايا حسنة. وفي هذا الصّدد، يطيب لي أن أذكر ما يلي، مِمّا كُتِب عن (الدبلوماسي، والعالم السياسي، والمؤرخ الأمريكي) الراحل، جورج كينان:
«عند عبور بولندا مع أول بعثة دبلوماسية أمريكية إلى الاتحاد السوفييتي في شتاء 1933، شعر دبلوماسيٌّ أمريكي شاب، يُدعى جورج كينان، ببعض الدهشة لدى سماع مرافقه السوفييتي، وزير الخارجية مكسيم ليتفينوف، يستعيد ذكرياته عن نشوئه في قرية مجاورة، وعن الكتب التي كان قد قرأها وعن أحلامه كصبيٍّ صغير بأن يصبح أمين مكتبة.
كتب كينان: «أدركنا فجأة، أو على الأقلّ، أدركتُ أنا، أن هؤلاء الناس الذين نتعامل معهم كائنات بشرية مثلنا «..» وأنهم وُلِدوا في مكانٍ ما، وكانت لهم طموحاتهم في طفولتهم كما كانت لنا طموحاتنا. وبدا لوهلة عابرة، أن بوسعنا أن نقتحم ونعانق هؤلاء الناس».
ولم يحدُث ذلك حتى الآن.
إنّ إدراك كينان المباغت يثير في الذاكرة قول جورج أورويل: «لقد انحدرنا إلى حضيضٍ بات فيه تكرار التعبير عن الواضح الجليّ، أول واجبات الرجال النابهين».