نون والقلم

ليس لنا إلا التشبث بالأمل

هل كان قدر المنطقة العربية أن تشهد كثيراً من التحوﻻت الدولية الكبرى وتدفع أثمانها الباهظة دوماً؟ ولماذا خرجت دول كثيرة في الشرق والغرب من نكباتها أكثر قوة ومتانة وبقيت الدول العربية تراوح مكانها أو تعود إلى الوراء؟

وهل وعى العرب ما جره عليهم «الربيع العربي» من أذى وتخريب؟ وهل تخرج الدول العربية بدروس مستفادة لتتلافى ما حدث مستقبلاً أم أنها ستسبح في دمها مرة أخرى؟

أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذهن ونحن نسمع عن اجتماعات دولية تخص الدول العربية هنا وهناك، حتى لم يبق من عمل للأمم المتحدة والدول الكبرى إﻻ عقد المؤتمرات التي تخص كثيراً من دول المنطقة!

إذا كانت الأمور محصورة بالتغيير والانتقال فلم لم تهدأ الأمور في عواصم التغيير العربية حتى اليوم؟ عندما بدأت أحداث تونس، لم يُجدِ الانتقال السريع للسلطة، ولأن المراد غير ذلك دخلت في دوامة العنف، وها هي اللقاءات والاجتماعات تعقد ولم تصل تونس إلى الهدوء المنشود بعد، ما يؤكد وجود خلل في الغايات والحلول المطروحة من قبل.

كذلك الأمر في ليبيا، فكلما تم الاتفاق على أمر ما خرج من يرفض هذا الاتفاق لمجرد الرفض، والأمر نفسه ينطبق على العراق الذي تجاوز عمر أزمته عقدين وﻻ تزال الصراعات مستعرة فيه وبمسميات عدة، والأمر في سورية التي تشهد أكبر مآسي الألفية الثالثة حتى الآن، أكثر تعقيداً وإيلاماً، وما من حل يلوح في الأفق.

شكّل الواقع المأسوي، الذي يعيشه بعض الدول العربية، أرضاً خصبة للتدخل الخارجي بعد ظهور الاحتجاجات الداخلية، وتشعبت أبعاد الصراع وإن بدرجات متفاوتة، وكان لا بد للترهل الذي أصاب دولاً عربية عدة سياسياً وتنموياً وثقافياً وفكرياً من أن يلقي بظلاله عليها، ما أسهم في شكل واضح في الوصول إلى هذه المرحلة.

بعد الحرب العالمية الثانية، خرجت دول المحور منهكة وخاسرة ومقسمة، وفي الحقبة ذاتها بدأ بعض الدول العربية بنيل استقلاله، وبعد أقل من نصف قرن صارت الدول التي خسرت الحروب دولاً متقدمة، وبقيت معظم الدول العربية استهلاكية، وعاد بعضها قروناً إلى الوراء. حتى الدول التي بقيت تحت الاحتلال والتمييز العنصري إلى وقت قريب، استطاعت أن تتحول إلى دول صناعية متقدمة، مثل فيتنام وجنوب أفريقيا، بينما الدول العربية التي كانت تتضامن معها، صارت متخلفة عنها، تخطب ودها وتستورد منها التقنية.

لم يستفد كثير من البلدان العربية من دروس الاحتلال، وﻻ من مجريات الحربين العالميتين، مع أن الأرض العربية كانت مسرحاً من مسارح الحرب. وكل ما فعله العرب التعاطف مع هذا أو ذاك من دون أن يعرفوا لماذا؟ ولم يستفيدوا من الحرب الباردة ومكتسباتها. وفي كل الأحوال، ﻻ الخاسر تعاطف معهم وﻻ المنتصر كافأهم.

المنتصر والخاسر تعاونا على إيجاد مجتمع متقدم، استطاع بديناميته تجاوز ما حدث، وتحقيق ثورة علمية وصناعية أسهمت في تعزيز تطوره، وكان مما ساعده في ذلك تخلص دوله من عقدة التفوق العرقي أو التاريخي على الآخرين، ومواجهة الواقع الجديد الذي يفرض عليها بوصفها دولاً مهزومة بناء مستقبلها من جديد، والتخلي عن أي أفكار تعوق ذلك الهدف.

ولاحقاً مع انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينات القرن الماضي جاءت الإشارات كلها إلى تشكل عالم جديد مختلف، واستطاعت التحالفات الجديدة مرة أخرى أن تجتذب المجتمعات المتنافرة، وأن تخرج من الاختلاف الأيديولوجي العميق.

مرّت العقود والمجتمع العربي ﻻ يحرك ساكناً، وجاءت صيحات العولمة والشركات المتعددة الجنسيات، والمجتمع العربي بنخبه موزع بين رافض لها ومرحب بها ومستسلم لها. وبينما كانت تتمدد في أذهان رافضيها قبل معتنقيها، دقت الأجراس مخطرة بضرورة وجود خيارات إصلاحية ﻻستمرارية المجتمعات وتنميتها، لكن الروح المصلحية طغت، وكل ما عملنا عليه هو توطين الدين والمذاهب والطوائف، ولم تنج من هذا السيناريو إلا دول قليلة جداً، مثل الإمارات العربية المتحدة التي حققت خلال العقدين الماضيين نمواً مطرداً في شتى المجالات وشهدت تطوراً ملحوظاً في مجال التنمية المستدامة وقفزات واضحة في مجال الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني والتعايش الاجتماعي، بل إنها حققت مراكز متقدمة في مجال تنمية الموارد البشرية، الأمر الذي جعلها تتصدر دول المنطقة وتنافس دولاً متقدمة وفقاً لتقارير عالمية في هذا المجال.

حين شاع مصطلح «الفوضى الخلاقة» قبل عقدين، رددناه بسخرية حتى استقبلناه بسرور أمراً واقعاً وسميناه «الربيع العربي». وبغض النظر عن التوصيف، فإن ما نعيشه اليوم هو الفوضى الخلاقة التي ﻻ يعني الطامعون في المنطقة أن نخرج منها، لأنها تستهلك أعمارنا وثرواتنا وتنميتنا وتقضي على إنجازاتنا، على قلتها، وبأيدينا نحن.

اليوم وقد قلبنا عاماً وبدأنا آخر، والتقارير تشير إلى بوادر حلول لأن الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا استشعرت الخطر الذي أصابها بسهامه، فهل يسمح دعاة الفوضى والاحتراب بيننا والمصفقون لهم، لنزيف الدم أن يتوقف؟ وهل سنستفيد من الدرس الكارثي المؤلم؟ وهل نحذو حذو الدول التي نجحت في تجاوز محنتها؟

إن «الربيع العربي» أثبت بما ﻻ يقبل الشك أنه الفوضى «الهدامة» لنا، «الخلاقة» لكل الطامحين إلى حكمنا أو التحكم بنا، وتبين للجميع أن ما من شيء تحقق للمواطن سوى مزيد من البؤس.

هل آن الأوان لنخرج بدروس مستفادة؟ هل سنعمل على مجتمعات المواطنة التي تقاوم الاهتزازات والفوضى؟ وهل نصل إلى قناعة بعبثية الحروب والصراعات الداخلية التي تجري بعون خارجي؟ هل نقتنع بأننا مهزومون فكرياً وحضارياً لنبدأ من جديد؟ وهل نبدأ حقاً بنزع أشواكنا بأيدينا؟

تترتب على قادة الرأي والمثقفين في العالم العربي اليوم مسؤولية كبرى لتجاوز الخلافات، وللتخطيط لبناء مجتمعات جديدة شاملة تتجاوز الأزمات الحالية. ولئن كان هذا الأمر عسيراً فإنه ليس بالمستحيل، ولعل تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة وما تحققه من تطور ملموس تثبت للجميع أن من الممكن إضاءة الشموع بدلاً من «لعن الظلام»، وأن توافر الإرادة الحقيقية والرغبة الصادقة والعمل الدؤوب لا بد من أن يثمر، وأنه السلاح الأمضى لمواجهة ما يحيط بنا من أهوال.

الأمر لم يعد يحتمل العلاجات اللحظية ليتكرر المشهد كل نصف قرن ليتم هدم ما بُني. إن الطاقات البشرية والمادية والجغرافية المتوافرة اليوم للنهوض قد ﻻ تتوافر مرة أخرى، ولا سيما في ظل الحروب التي تحسم يومياً من مواردنا البشرية كماً ونوعاً، فهل نعمل ونستفيد أم أن الظلام وقواه أشد فتكاً؟

السواد القاتم الذي يحيط بنا محبط من دون أدنى شك. لكن ليس لنا إلا التشبث بالأمل، والكرة الآن في ملعب العقلاء من العرب حكاماً ومفكرين وشعوباً، فعسى أن تحمل لنا الأيام المقبلة ما يكشف الغم ويثلج الصدور.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى