نون والقلم

على هذه الأرض ما يستحق الحياة

لا يمكن تأريخ حركة النهضة الحضارية في دبي بشكل موثق من دون الرجوع لتفحص العقلية التي كانت وراء هذه القفزة النوعية الحضارية التي تجلت في أذهان القادة المؤسسين وصولاً إلى الجيل الثاني الذي تسلم راية البناء ودفع عجلة النمو والتطور إلى الأمام بخيال الشاعر كما هي لدى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله. ولعلني أزعم أن العبد الفقير لله راقب عن كثب كزائر وليس كمقيم هذه النقلة الحضارية في دبي من أواخر السبعينات حتى تاريخه، ويمكن أن أرسم صورة واقعية لهذا الزحف التنموي الهائل الذي تم بطريقة علمية مخططة ومدروسة لكنها مجبولة بالخيال الشاعري وبفروسية لا تخلو من التواصل بين القيم الموروثة والعطاء الحضاري المتسارع في الانهمار من شتى المنابع العلمية والمعمارية في العالم.

في العام 1978 وجدتني وجهاً لوجه مع الشيخ الواعد محمد بن راشد وزير الدفاع كما سميته آنذاك في الحوار الصحفي الذي أجريته مع سموه لصحيفة «الوطن» الكويتية ولمست في حينه مدى ثقته في الجيل الشاب وضرورة منحه فرصة تقلد المهام والمناصب لدفع عجلة التنمية حيث قال عندما صافحته في مكتبه بقصر الحاكم وقبل أن نجلس «ظننتك صحفياً عجوزاً وكنت أريد منحك عشر دقائق من الوقت ولكنك شاب.. فلك ساعة من الوقت لأني أؤمن بالشباب».
وجرت المياه على ساحل دبي مذاك وتراجعت كثبان في صحرائها ونمت وترعرعت شرائح من الشبان المؤمنين بقدرتهم على البناء طالما وفرت لهم القيادة إمكانات العمل والبناء في جو إيجابي مريح ينافسون أعرق المدن ويدرسون كل التجارب العلمية والعالمية، ويستنبطون من بطونها ما يصلح لهذا البلد الآمن المستقر لكي ينعم بالرقي الحضاري والانتعاش ويوفر سبل الاستثمار لكل القطاعات التي تهدف إلى المساهمة في هذا الأنموذج الحضاري الفريد.
وقد أكد سموه في كتابه الفريد «رؤيتي» حقيقة إيمانه بالشباب ودورهم عندما قال «عندما أسمع بعض مديري الشركات يشتكي من صعوبة العثور على الموظفين المناسبين أتساءل كيف توصّلوا إلى هذه النتيجة، ولماذا لم يلتقوا مئات الشباب والشابات المدربين والمؤهلين الذين التقيهم في الاجتماعات والمناسبات الرسمية أو غير الرسمية؟ أعتقد أن مهام مديري الشركات والمؤسسات والمشاريع يجب أن تتضمن اختيار مجموعة مناسبة من الموظفين ذوي الكفاءات العالية وتدريبهم تدريباً خاصاً لكي يصبحوا مديرين مثلهم في المستقبل. لكن هذا لا ينطبق فقط على الشركات فأنا أعتقد أنه من واجب القائد أن ينمي القدرات القيادية لدى من يعرف فيهم الكفاءة والإبداع والاستعداد ليتمكن هؤلاء في الوقت المناسب من تنمية القدرات القيادية لدى العاملين معهم به».
ولعل صاحب السمو الشيخ محمد في كتابه ثبت بعض ما ورثه من تجارب من حكمة الآباء وضرورة المبادرة إلى الأعمال العملاقة حتى لو كانت سابقة لأوانها مثلما تحدث عن مبادرة والده المغفور له الشيخ راشد في إقامة ميناء جبل علي في مرحلة سابقة لأوانها ومن بعده صارت جعبة الشيخ محمد تتحف العالم بمبادرات رائدة في البناء والعمران والتطوير في الحكم والإدارة بهدف خلق إدارات سهلة وسلسة توفر الوقت وتحفز على العمل وتجذب المستثمرين وتشجع على الإبداع والابتكار في شتى المجالات. وأذكر هنا كيف أن أول برج وهو برج التجارة العالمي في دبي كان تجربة رائدة في زمنه وما بين البرج وحتى جبل علي كانت المنطقة بلا حياة باستثناء بعض الفنادق. وماهي إلا سنوات قليلة حتى دبت الحياة في تلك المنطقة الخالية وانبثقت الأبراج وتسلسلت الطرق والمرافق وانتعشت الحياة وتمددت دبي في كل اتجاه وصارت مقصداً للخدمات والسياحة والتجارة العالمية.
فالعقلية التي أبدعت كل هذا لابد أن يكون مزاجها شاعرياً وطبيعتها واقعية لا تخشى ركوب المخاطر بحسابات العقل. وقد استمتعنا في العيد الأربعين لقيام دولة الاتحاد والشيخ محمد يردد في قاعة برج التجارة العالمي بدبي سردية روائية رائعة لتجربته وهو يرصد اللقاء التاريخي بين القائدين المؤسسين زايد وراشد على ربوة صحراوية بين دبي وأبوظبي ولسان حاله الراوي لحقبة ميلاد هذا الصرح الحضاري الناجح على هذه الأرض من العالم يقول كما قال الفيلسوف نيتشه ورددها من بعده محمود درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى