إذا كان من فائدة استراتيجية لانخفاض أسعار النفط على دول الخليج فيكون في مقدمتها «الإصلاح الاقتصادي»، الذي كان غائباً عن خطط حكومات المنطقة حيث حاولت مراراً تأجيل الخوض في هذه العملية على مدى الدورات الاقتصادية في العقود الماضية.
أدركت دول الخليج أخيراً أنه لا فرار من القضاء على التشوهات التي تعتري اقتصاداتها من خلال سياسات الدعم التي تنفذها على قاعدة «الدولة الرعوية» المسؤولة بشكل كامل عن مواطنيها حتى وإن كانوا يمارسون عادات خاطئة تؤدي إلى تهيج الاستهلاك وزيادة الإنفاق وتعظيم الهدر واستخدام الأموال المخصصة للأجيال المقبلة.
بعد دولة الإمارات التي كانت في العام الماضي الأكثر جرأة في التعاطي مع المستجدات، وقرارها الاستراتيجي برفع الدعم عن وقود التجزئة واعتماد سياسة تحرير الأسعار، لجأت السعودية أكبر مصدر نفطي إلى خطوة مشابهة بزيادة أسعار الوقود 50 في المئة لترشيد استهلاكه وتقليص الدعم المقدم، وهو الأمر ذاته الذي فعلته البحرين وسلطنة عمان وتتجه لاتخاذه الكويت خلال الأيام الآتية.
برامج الإصلاح الاقتصادي على مستوى الخليج لن تقتصر على الوقود بل شملت وستشمل مختلف أنواع الدعم المباشر وغير المباشر وهو ما سيقلص الإنفاق غير المبرر الذي يبدو ظاهره دعماً لكن باطنه هدر إذا علمنا أن الجزء الأكبر منه يذهب لفئات لا تحتاج إليه، في الوقت الذي جعل الفرد في دول المنطقة الأكثر استهلاكاً للوقود والماء والكهرباء على مستوى العالم.
ماذا يعني الإصلاح الذي يبدو أنه سيكون نهجاً خليجياً للمرحلة المقبلة؟
يعني أن يتناغم الإنفاق الحكومي مع الموارد المتاحة، فلا يمكن أن يستمر الاقتراض وتتضخم المديونية من أجل أن يتوسع الاستهلاك الكمالي، ويعني أيضاً أن تتعزز الكفاءة الإدارية الحكومية وسيادة القانون، وأن تصبح التنافسية هي المعيار.. يعني أن يتم القضاء على تشوهات الأسعار وإتاحة الفرص ذاتها أمام الجميع بعيداً عن الأفضليات والبيروقراطية.. يعني شفافية وإفصاحاً وحوكمة.
دول الخليج أنفقت الكثير في العقود الماضية بهدف خلق اقتصادات قادرة على الاندماج في الاقتصاد العالمي، وكان النجاح حليف بعضها، لكن درجة هذا النجاح اختلفت من دولة إلى أخرى، في مقابل ذلك فإنها أهدرت أيضاً الكثير الكثير من ثرواتها بسبب السياسات الاقتصادية الموجهة وسياسات الدعم والأنظمة الإدارية المتبعة. قد يكون الأمر طبيعياً في السابق لأنها كانت في مرحلة البناء والتوسع، لكن ما هو غير طبيعي هو الاستمرار بهذا الهدر والذي جاء النفط الرخيص ليدق ناقوسه بصوت مرتفع.
ما أقدمت عليه دول الخليج مؤخراً سيصب في مصلحة الأجيال المقبلة وسيكون عوناً للحكومات وللشعوب للحفاظ على الموارد والثروات، وإلا فإن هذه الدول ستكون على هامش الاقتصاد العالمي وأسيرة لمتغيراته لعقود ما يؤخر نموها ويغرقها في ديون ليس لها آخر.