نون والقلم

دول الخليج والاتحاد الأوروبي

إن العلاقات التاريخية والتقليدية التي تربط دول الخليج العربي بالولايات المتحدة الأمريكية، لم تمنعها خلال السنوات القليلة الماضية من انتهاج سياسة استراتيجية أكثر توازناً قائمة على توسيع مجال تحالفاتها الإقليمية والدولية من خلال إقامة علاقات متنوعة ومفتوحة مع الدول الغربية الكبرى وفي طليعتها دول الاتحاد الأوروبي، وتعود هذه العلاقة المتميزة مع الاتحاد إلى المراحل الأولى من تأسيس مجلس التعاون الخليجي، فبعد أن كانت العلاقات تُنسج في بداية الأمر بشكل ثنائي مع دول أوروبية منفردة، حرصت دول الخليج بعد ذلك على إقامة علاقات متميزة مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل نظراً للمصالح المشتركة التي تربط بين الجانبين في مجالات عدة لاسيما على مستوى الاقتصاد والتكنولوجيا والطاقة.

تعود أهمية هذه العلاقة إلى كون أن الخليج العربي يتميّز بوضعية جيوسياسية وجيواستراتيجية في غاية الأهمية نظراً للخيرات والموارد الطبيعية والبشرية التي يزخر بها، وذلك فضلاً عن دوره الحضاري والاقتصادي الرائد في العالم لأسباب عدة لا تتعلق فقط، بالاحتياطي الطاقوي الكبير الذي يمثل أكثر من 60 في المئة من احتياطات العالم مع إنتاج يصل إلى 30 في المئة من البترول العالمي، ولكن نظراً إلى الدلالة والرمزية الروحية التي تمثلها هذه المنطقة، التي تهفو إليها نفوس أكثر من مليار ونصف المليار مسلم من كل بقاع العالم. وعليه فإن هذه الخصوصيات الفريدة والمتعددة التي تميز الخليج العربي جعلت دوله تنتهج سياسة حكيمة وحذرة من أجل مواجهة كل الأطماع الدولية والإقليمية التي تطمح إلى السيطرة على المنطقة.
لذلك فقد سعت دول مجلس التعاون، بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، إلى رسم سياسة خليجية جديدة تعتمد على شبكة واسعة من العلاقات الدولية من خلال إقامة تعاون أوسع مع دول أوروبا والصين وروسيا، ومع الدول العربية والإسلامية وكل القوى الفاعلة والمؤثرة في مسرح السياسة العالمية.
ويمكن القول إنه وفي اللحظة التي يتراجع فيها مستوى النمو في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن دول الخليج تشهد مرحلة مزدهرة من التنمية المستدامة في كل المجالات الصناعية والاجتماعية والرياضية والإعلامية، الأمر الذي جعلها تتحول إلى شريك عالمي لا يمكن تجاوزه، وتحديداً بعد أن استطاع مجلس التعاون أن يحوِّل عوائد الريع البترولي إلى رهان أساسي في تطوير اقتصاد المعرفة وفي بلورة التنمية البشرية لكل أبناء الخليج.
وبالتالي فإن انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، لا يمكنه أن يؤثر بشكل كبير في مسيرة التنمية التي قطعت أشواطاً حاسمة ووصلت إلى نقطة اللاعودة بفضل السياسة التنموية الحكيمة لقادة دول المنطقة.
ومن نافلة القول أن نشير في هذا السياق إلى أن الاتفاق الذي أبرمه مجلس التعاون الخليجي مع الاتحاد الأوروبي في سنة 1988، يسعى إلى تعزيز الاستقرار في هذه المنطقة التي تحمل أهمية استراتيجية بالنسبة لكل دول العالم، وقد هدف هذا الاتفاق أيضاً إلى تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والتقني والزراعي بين الجانبين، وسمح الاتفاق في السياق نفسه بتطوير التعاون في مجالات الطاقة والنقل والبحث العلمي، وهي الأمور التي جرى التأكيد عليها في اللقاء الذي جمع الطرفين في المنامة بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2013 برئاسة كاترين أشتون ووزير الخارجية البحريني.

ويجب التنويه في هذا المقام إلى أن فتح الاتحاد الأوروبي للجنة جديدة في أبوظبي في السدس الثاني من سنة 2013، جاء ليعكس مقدار الأهمية التي تمثلها دول مجلس التعاون بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وبخاصة أن الخليج يمثل السوق الخامسة بالنسبة لصادرات الاتحاد الأوروبي، كما يمثل هذا الأخير الشريك التجاري الأول بالنسبة لدول الخليج العربي، ومن ثمة فإن الجانبين يسعيان في المرحلة الحالية إلى توثيق التعاون بينهما في مجالات الطاقات النظيفة والمتجددة تحسبا لمرحلة ما بعد النفط.

ويمكن أن نلاحظ في السياق نفسه أن دول الخليج سعت في المرحلة الأخيرة إلى تعزيز تواجدها في مجال النقل الجوي في أوروبا، حيث يلعب طيران الإمارات وطيران الاتحاد إضافة إلى الخطوط الجوية القطرية دوراً محورياً في هذا القطاع الاستراتيجي، وقد توصل الطرفان الأوروبي والخليجي إلى تجاوز الكثير من الخلافات المتعلقة بهذا الملف، لاسيما بعد أن عبّر الجانب الأوروبي عن إعجابه بمستوى التطور الكبير الذي حققته شركات الطيران الخليجية. وبالتالي فإن الطرفين يطمحان في المرحلة المقبلة إلى التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن ما يسمى بالسماء المفتوحة من أجل تجاوز كل الخلافات الراهنة.
ونستطيع أن نستنتج عطفاً على ما سبق أن العلاقات الخليجية الأوروبية ليست محصلة لقرارات ارتجالية أملتها الظروف الطارئة، ولكنها تمثل خياراً استراتيجياً بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي الذي يرى أن الاتحاد الأوروبي بات يمثل الآن منظومة دولية ناضجة تتجاوز المصالح الضيقة للدول، وتبتعد بشكل ملموس عن سياسة الهيمنة التقليدية التي تتبناها الدول الوطنية العتيقة التي ما زالت أسيرة لتاريخها الاستعماري.

أخبار ذات صلة

Back to top button