نون والقلم

البيت العربي بين الإصلاح والترحيل

يتطرق البعض ممن يبحثون مستقبل النظام الإقليمي العربي عندما تضع الحروب الإقليمية أوزارها إلى موضوعات متعددة تطرّق إليها أولئك الذين كانوا يناقشون مستقبل النظام الدولي قبل سبعين عاماً تقريباً، أي عندما كان العالم يخرج من حرب طاحنة ذهبت بما لا يقل عن الثلاثين مليون قتيل، وعندما كان القادة السياسيون الكبار، وبصورة خاصة رئيس الحكومة البريطاني تشرشل والزعيم السوفييتي ستالين والرئيس الأمريكي روزفلت ، ومعهم العديد من مفكري الغرب وعلمائه يبحثون عن الطريق الأفضل لوضع حد للحروب إلى الأبد.

كان على أولئك القادة أن يحسموا أمرهم تجاه النظام الدولي وتجاه أداته الرئيسية أي عصبة الأمم وأن يقرروا ما إذا كانوا يرغبون في الحفاظ عليها، كما كانت قبل الحرب، أم يريدون طي صفحتها كلياً أم يفضلون إصلاحها. وقد آثر القادة الكبار آنذاك إنهاء خدمات العصبة واستبدالها بهيئة الأمم المتحدة.
فهل كان هذا القرار في محله؟ وما الدروس التي يمكن أن يستفيد منها أولئك الذين يناقشون مستقبل النظام الإقليمي العربي اليوم، ومستقبل مؤسسات العمل العربي المشترك وعلى رأسها جامعة الدول العربية؟ هل يجدون أن الاستغناء الكلي عن النظام الإقليمي العربي ومؤسساته واستبدالها بنظام جديد هو الطريق إلى قيام سلم إقليمي دائم في المنطقة؟ أم أن الإبقاء على النظام الإقليمي على حاله هو الطريق الأصح لبلوغ الغايات والأولويات المشتركة عند كافة شعوب المناطق الثلاث المشرفة على المتوسط أي العربية والمتوسطية والأوسطية؟ أو لا هذا ولا ذاك أي الإبقاء على النظام الإقليمي العربي، ولكن بعد إدخال تعديلات جذرية عليه؟
رغم أن القادة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية آثروا استبدال عصبة الأمم بهيئة الأمم المتحدة، ولكن الحقيقة هي أنهم لم يذهبوا بعيداً في هذا الخيار. بل الأصح القول إنهم عادوا إلى عصبة الأمم، لكن بعد أن أدخلوا عليها تعديلات مهمة. والأصح القول أيضاً إن التوقعات التي رافقت استبدال الهيئة بالعصبة لم تكن في محلها، فالتغيير لم يكن جذرياً بل كان جزئياً، وفي بعض الأحيان لم يكن تغييراً نحو الأفضل، وأن الهيئة جاءت تشبه العصبة من نواح عدة.
الشبه الرئيسي بين المنظمتين الدوليتين تمثل في العضوية ، إذ إنها شملت كل دول العالم المستقلة، وهذا الشمول كان سليماً وفي محله. إلى جانب ذلك أدخلت على هيئة الأمم تعديلات عدة كان أهمها إنشاء مجلس الأمن وتزويده بصلاحيات واسعة النطاق. إضافة إلى الصلاحيات الواسعة التي أعطيت إلى المجلس على حساب جمعيته العمومية التي كانت أشبه «ببرلمان» المنظمة الدولية، فإن المجلس شكل على أساس تراتبي بحيث أعطيت الدول الكبرى امتيازات استراتيجية على حساب الدول المتوسطة والصغرى. واعتبرت هذه التراتبية واحدة من الفوارق المهمة التي سمحت بالمحافظة على هيئة الأمم المتحدة بعد بدء الحرب الباردة ، فهل يكون إدخال أو تعزيز التراتبية في حوكمة النظام الإقليمي العربي خطوة من خطوات الإصلاح التي تُرسخ هذا النظام في المراحل المقبلة؟ في الإجابة عن هذا التساؤل من المستحسن مراعاة الاعتبارين الآتيين:

أولاً، إن التراتبية ليست سمة مطلقة. فهي قد تكون في محلها ومحقة إذا سهلت تطبيق المبادئ الديمقراطية في إدارة المؤسسات الإقليمية وفي السماح بالتعبير عن إرادة أبناء وبنات المنطقة، وبمشاركتهم في انتقاء السياسات المحققة لمصالحهم ومطالبهم المشروعة. فعلى هذا الصعيد، وعندما تتخذ مؤسسات العمل العربي المشترك قرارات ذات طابع مصيري ومهم، فإنه من الخطأ أن يكون لمواطن واحد في بلد عربي، وبحكم آليات العمل السياسي الإقليمي، التأثير نفسه الذي يملكه مئة مواطن في بلد عربي كبير. في هذه الحالة توفر التراتبية حلاً يمكن الاتفاق عليه بين سائر الدول الأعضاء في الجامعة وفي المؤسسات التابعة لها.
بينما تشكل التراتبية مخرجاً مناسباً في الحالة التي أشرنا إليها، فإن التراتبية سوف تتحوّل إلى عامل مهم في إذكاء الخلافات والصراعات غير المبررة والضارة بين الدول الأعضاء ، إذا نفذت بالإرغام وباستخدام وسائل العنف من قبل بعض الدول الأعضاء في المنظمة الإقليمية أو الدولية. ولقد انهارت عصبة الأمم نتيجة هذا السلوك بعد أن غزا موسوليني الحبشة في منتصف الثلاثينات وهدد باحتلال المزيد من دول القارتين الإفريقية والآسيوية.

ثانياً، إن العلاقات العربية – العربية لم تبتعد عن مبادئ التراتبية المستحسنة حتى وإن لم تقونن بدقة ووضوح من قبل المشرعين في حقل العلاقات البينية العربية. فمنذ أن نشأ النظام الإقليمي العربي، تأسست معه تلك التراتبية حيث تمتعت مصر بين منتصف الأربعينات وأواخر الستينات بالدور المحوري في السياسة العربية. وخلال السبعينات، ونتيجة لتطور العلاقات البينية العربية تبوأت الترويكا الممثلة بمصر، والسعودية وسوريا دور محور السياسة العربية. ولقد تم هذا الانتقال، من الزعامة الأحادية إلى الزعامة الإقليمية الثلاثية بصورة سلمية ومن دون صراعات كبرى، كما جرى في أقاليم أخرى من العالم.
لقد كان من المستطاع أن تتبلور هذه التطورات في إدخال صيغ لإصلاح النظام الإقليمي العربي. من هذه الصيغ قيام مجلس أمن عربي مشابه لمجلس الأمن الدولي، ولكن من دون سلبيات المجلس الأخير. فبدلاً من العضوية الدائمة، تنتخب الدول العربية الرئيسية كأعضاء لأمد طويل من قبيل المساهمة في ترسيخ الاستقرار الإقليمي، وتعطى هذه الدول حق الفيتو، لكن المقيد بشروط تمنع سوء استخدامه كما تفعل بعض الدول الكبرى في مجلس الأمن. غير أن المشروع الذي أريد منه أن يكون مدخلاً لتصويب العلاقات البينية العربية وإطاراً للتوافق بين الدول العربية الرئيسية، طبق بأسلوب مبتذل واستعراضي بعيد عن الهدف المتوخى منه.
إن الذين يبحثون عن سبل تطوير النظام الإقليمي مع الحفاظ على طابعه العربي سوف يجدون مجالات لا حد لها لتطبيق هذه الغاية. أما الذين يسعون إلى الحفاظ على النظام الإقليمي، ولكن بعد سلبه طابعه العربي، فإنهم سيجدون الطريق وعراً ومحفوفاً بالمخاطر والمآسي، ولسوف يتحملون أمام شعوبهم وأمام المجتمع الدولي مسؤولية هذه المآسي. فالنظام الإقليمي العربي ليس ظاهرة «متخيلة» أو «مخترعة». إن البيت العربي يستند إلى مقومات سمحت ببقائه لعقود من الزمن وسوف تسمح بالحفاظ عليه لعقود قادمة.

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى