في حوار سابق مع قناة تونسية، قال الرئيس الباجي قائد السبسي إن تونس لا مشكلات لها مع دول الخليج العربي، وإنه يقدّر ظروف كلّ دولة، ونفى وجود أي فتور مع هذه الدول. لكن التونسيين يعرفون أنه منذ الثورة تراجعت علاقة دولتهم مع الأشقاء العرب في دول الخليج العربي، وأن الفتور قد غلب على العلاقات بين الطرفين. غير أن زيارة الرئيس الباجي قائد السبسي إلى المملكة العربية السعودية مؤخّراً، تعدت دفء العلاقات بين تونس ودول الخليج.
هناك متغيّرات حدثت في الآونة الأخيرة ترجّح عودة العلاقات بنسق أقوى خلال السنة الجديدة. وهذه المتغيرات تظهر في شكل ضمانات وتحالفات، ربما ستنشأ عنها وساطات لإذابة الجليد، الذي يخيم على علاقة تونس بدول الخليج. هناك من يعتقد أن تونس قد تقع ترقيتها إلى رتبة شريك مميز وتحظى بوضعية مماثلة لتلك التي حصلت عليها الأردن والمغرب، بعد انطلاق شرارة ما سمي بالربيع العربي. لكن الوصول إلى تلك الدرجة من العلاقات يستوجب توفير جملة من الشروط، بالنسبة إلى الشريكين حتى يتم بناء قاعدة متينة للعلاقات الاقتصادية والجيوسياسية.
عند قراءة سريعة لتطور العلاقات بعد سنة 2011، نرى أن العلاقات السياسية تراجعت بشكل كبير، بل إنّ سنة 2015، شهدت ما عرف في تونس بأزمة التأشيرات مع بعض دول الخليج. المشكل تمثل في عدم ارتياح بعض دول الخليج لبعض الأطراف السياسية في تونس التي تعتبرها امتداداً لتنظيم الإخوان المسلمين، ولنهجهم السياسي العنيف. لكن دولاً خليجية أخرى دعمت الأطراف السياسية التونسية المتحفظ عليها خليجياً. وهناك أحاديث عن تدخلها المباشر في الشؤون الداخلية التونسية. وهنا تعطلت العلاقات بشكل شبه كامل خاصة في مدة حكم الترويكا. التونسيون انتظروا دفعاً للعلاقات في عهد حكومة نداء تونس وبعد وصول السبسي إلى كرسي قرطاج، نظراً لعلاقاته الوثيقة مع أطراف خليجية عدة، لكن الآمال ظلت معلّقة إلى حدّ الزيارة التي قام بها في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول.
المتغيّرات الحاصلة، في العلاقات بين تونس ودول الخليج، تثبت أن عصراً جديداً سيشرق في المستقبل القريب، فهناك مساعدات عسكرية مهمّة تم تقديمها لتونس لمحاربة الإرهاب، وهي كفيلة بتمكين قوات الأمن والجيش من جاهزية أكبر خاصة، وأن تونس أعلنت انضمامها إلى التحالف الإسلامي. لكن الأهم من المساعدات العسكرية، هو إحياء الاستثمار الخليجي في تونس. فقد أعلن عبد الرحمن الزامل رئيس مجلس الغرف السعودية خلال لقائه الرئيس التونسي ووفداً من رجال الأعمال في البلدين، أن المبادلات التجارية بين البلدين ارتفعت بين 2010 و 2014 بنسبة ثمانين في المئة، أي بمعدل سنوي يصل إلى 20 في المئة. وأوضح أن المملكة خصصت موازنة مهمة للاستثمار تصل إلى 300 مليار دولار سنوياً، من أجل تنويع مصادر الاقتصاد السعودي، وجزء من هذه المبالغ ستستفيد منه تونس في المستقبل في إطار مشاريع مشتركة، علماً أن هناك مشروعاً ضخماً أعلن عن البدء بتنفيذه منذ سنة 2014 وهي مدينة تونس الاقتصادية التي من المرجح أن يبلغ حجم الاستثمار فيها نحو 50 مليار دولار. وهي قادرة على توفير نحو 250 ألف وظيفة شغل بشكل مباشر.
وهناك مشاريع استثمارية كبرى مازالت معطلة، أهمها مشروع مدينة باب المتوسط، الذي تشرف عليه مجموعة دبي القابضة. وتنفذه شركة سما دبي. هذا المشروع الضخم قدرت تكاليف الاستثمار فيه ب25 مليار دولار. والخبر السار بالنسبة إلى التونسيين هو استئناف العمل في هذا المشروع في سنة 2016. فقد أعلن الرئيس التنفيذي لتطوير الأعمال بالمجموعة الإماراتية «دبي القابضة»، خالد المالك، أنّ مشروع «باب المتوسط» (مشروع سما دبي)، المعطّل منذ العام 2011، سيستأنف خلال السنة القادمة 2016. ولزيادة دعم التعاون بين تونس والإمارات، وتطوير مجالات الاستثمار العقاري، التقى منذ أيام قليلة وفد المجموعة الإماراتية الذي يقوده الرئيس التنفيذي خالد المالك، وزير التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية، محمد صالح العرفاوي، واتّفقا على العمل سويّاً على تنشيط المشاريع المتعطّلة. وكانت شركة «سما دبي» التابعة لدبي القابضة المملوكة، أعلنت في نهاية سبتمبر/أيلول 2008، إطلاق أكبر مشروع استثماري في تاريخ تونس لتشييد مدينة ضخمة في ضواحي العاصمة تونس بقيمة 25 مليار دولار. وكانت الاستثمارات الخليجية في تونس عرفت دفعاً قوياً قبل الثورة نتج عنه توقيع عدة اتفاقيات، مثل المدينة الرياضية التي تنفذها مجموعة بوخاطر الإماراتية التي من المفترض أن يقع استئناف العمل فيها في السنة الجديدة، ومشروع المرفأ المالي بمنطقة رواد الذي يموّله «بيت التمويل الخليجي» و«بنك الاستثمار الإسلامي»، وتقدّر قيمته ب7.5 مليار دينار تونسي، أي ما يعادل 5 مليارات دولار. ويتضمّن مجموعة متنوعة من الوحدات التجارية والسكنية والمنشآت الترفيهية التي ستشمل مرفأ بحرياً ومجمعاً سكنياً وملاعب «غولف»، ويعتبر هذا المرفأ أول مركز مالي للوحدات المصرفية الخارجية في منطقة شمال إفريقيا.
هذه المشاريع الضخمة لو تم تنفيذها ستغيّر العلاقات التونسية الخليجية من جذورها، وستثمر فوائد لكل الأطراف. وفي الحقيقة فإن تونس لا تحتاج إلى مساعدات مالية، بل تحتاج إلى شراكة اقتصادية عميقة، تجعل منها قطباً للتجارة العالمية في قلب المتوسط. وحتى إن تأخرت الاستثمارات فإن من أدركوا أهمية تونس لموقعها الاستراتيجي في التجارة العالمية، هم الذين سيبادرون إلى اقتناص الفرصة والمبادرة إلى حجز مقعد في الصفوف الأولى، للطائرة التونسية التي لن يتأخر إقلاعها كثيراً. الجانب التونسي ملزم بأن يثبت حسن انفتاحه على كل دول الخليج العربي من دون استثناء، ولعل أول خطوة مطلوبة بعد زيارة المملكة العربية السعودية، هي إعادة المياه إلى مجاريها مع دولة الإمارات العربية المتحدة.