تشهد الساحة اليمنية مفاجآت يومية، بل وفي كل ساعة ودقيقة، حتى إن المراقبين يتخبطون في تقديراتهم وتوقعاتهم، فمنهم من يأمل في قناعة مشتركة باستمرار العملية السياسية وعودتها من حيث توقفت قبل عام، ومنهم من يراهن على حسم عسكري يقوده الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، إضافة إلى فصائل العمل السياسي وعموم المواطنين الناقمين من تصرفات الميليشيات الحوثية وحليفها صالح.
ويتمترس التحالف العربي في مربع الميزة العسكرية والسياسية المطلقة ليشكل السياج المنيع للقوة والمنعة، فيما تتداعى الأمور باتجاه تقدم واضح للشرعية ومن يناصرها، وتقهقر مواز للانقلابيين ومن يصطف معهم على درب المتاهة.
ومن المراقبين من يفترض استمرار الكر والفر، وابتكار أدوات فعل جديدة للمنهزمين الذين يجدون الوقت والبيئة المناسبة لتخريب أي منجز باتجاه تحرير المناطق، ولعل ما جرى بالأمس القريب في عدن خير شاهد على الاحتياطات التخريبية التي يجيد صالح استخدامها في الوقت المناسب، فقد دأب خلال مرحلة ما بعد التوقيع على الاتفاقية الخليجية في استهداف البنية الخدمية الأكثر حساسية، ولم يتورع في تدمير أبراج الكهرباء ومهاجمة محطات توليد الطاقة، وتفجير أنابيب النفط والغاز، وعندما تأكد له وأنصاره المخربين أن المواطن اليمني قادر على امتصاص تلك الصدمات والتكيف مع خرائبها.. شرع في تدوير الاغتيالات السياسية الموجهة حصراً للضباط وصف الضباط والقيادات السياسية الممسكة بالعملية السياسية الرشيدة، وها هو الآن يدير قاعدييه ودواعشه المعروفين اسماً ورسماً في محاولة يائسة لإرباك المشهد المتميز في عدن المحررة من ربقة مجرميه وميليشيات الحوثي.
لو كان صالح ومن معه يستوعبون حكمة التاريخ والجغرافيا لأدركوا أن الشعوب لا تقهر بمثل هذه التصرفات، وأن ما كان متاحاً له بالأمس القريب لم يعد متاحاً اليوم، فالجغرافيا المقاومة له ولميليشياته، والأفئدة المكلومة، والغضب العارم، لم يعد يسمح بإنجازات ظفر واهم يتحقق هنا أو هناك. اليوم تتصدى كل المدن اليمنية لمن يريدون مصادرة التاريخ والمصير، وهذا ماحدث أيضاً اثناء الانتفاضة الشبابية السلمية التي اقترنت بأحلام كبيرة في الانعتاق والانطلاق..
غير أن مشهد اليوم يختلف جذرياً، فالذين كانوا بالأمس القريب يناجزون سلطة الفساد والخراب والدمار بصدور عارية يتصدون لها بالسلاح وكل أشكال الفعل المقاوم اليوم، والذين كانوا بالأمس القريب مكشوفين لبنادق العتاة ومدافع البائسين لم يعودوا اليوم وحيدين في ساحات الوغى، فالملحمة اليمنية الراهنة اتسعت لجموع الشعب، وكامل الشرفاء المنتمين للمؤسسة العسكرية المغدورة، والشباب المقاوم في كامل المدن الكبرى.
لهذه الأسباب مجتمعة فإن وراء الآكام والهضاب نوراً باهراً، ومعركة صنعاء كما لو أنها اللحظة الحاسمة في متوالية الانهيار النهائي لنظام البؤس والشقاء الذي لم ينته في عام ٢٠١١م كما تمنى الكثيرون، ولكنه ينتهي اليوم بالطريقة التي اختارها سدنة ذلك النظام وجنونه، فما سيحدث اليوم وغداً وبعد غد هو تصفية حساب مع كل الذين استباحوا الشعب، وأفقدوا اليمن مقدراته، وأصبحت أياديهم الممدودة في كل المحافل الدولية وصمة عار في جبين الكرامة الوطنية اليمنية.
نظام صالح استمرأ سياسات اليد السفلى مع الغير، والاستئساد على الذاكرة الوطنية في الداخل، ومصادرة أحلام الشباب وأمانيهم في حياة حرة كريمة، ولم يقف هذا النظام عند حد الإفقار الشامل للشعب، بل بالغ في الفجور المالي، والنهب المتصاعد للخيرات والمقدرات، وتحويل جهاز الدولة إلى حواضن انتفاع رخيص، فيما أخل بنواميس المؤسسات، ودمر الموروث الإداري والمالي، وحول جنوب اليمن إلى ضاحية نهب وسلب ومصادرة، ليتوج كل ذلك باستباحة المدن، وتدمير البنية التحتية، وقتل الشعب.
هذه المقدمات بجملتها تؤشر إلى النتائج المتوقعة.. تلك التي لا يمكنها أن تكون أقل من دولة يمنية اتحادية.. تعتمد المواطنة القانونية، وتجعل الشراكة في الأرض والمصير رافعتها العليا، وتترك الماضي البائس غير مأسوف عليه.