كل العرب يتوقون لتحقيق حلم الوحدة، كل واحد في حدود تطلعاته، وكل واحد في حدود أحلامه. البعض يريدها وحدة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، والبعض تتواضع طموحاته فيبحث عن ارتباطات تاريخية قديمة حين كانت تتشكل دول على إيقاع انهيارات انفصال عن الخلافات الإسلامية الكبرى، وغالباً ما تكون في الأطراف، المغرب، اليمن، الولايات الإسلامية في آسيا، والأقاليم الفارسية التي تشكل الآن جمهورية إيران.
ولكن أكثر الشعوب، وكما رصدت التطورات التاريخية القريبة توقاً للوحدة، وأبدت شجاعة نادرة على خوضها وتحقيق أركانها وتحويلها من مجرد حلم إلى حقيقة، هما شعب الإمارات العربية في الشمال الشرقي للجزيرة العربية وشعب اليمن في جنوبها.
كان الشيخ زايد طيب الله ثراه، يعيش حلم الوحدة قبل أن يصل إلى منصب الحاكم في أبوظبي. وهذا الكلام ليس من عندياتنا كإماراتيين أو عرب. فهذه إحدى الوثائق البريطانية عثرت عليها في مركز الوثائق البريطانية في لندن، وأنا أبحث في الأرشيف البريطاني الإماراتي، كتبها أحد المعتمدين البريطانيين في منطقة الخليج عام 1969، قبيل الزيارة الرسمية الأولى للشيخ زايد إلى العاصمة البريطانية. وكانت الحاجة تقتضي أن يعرف القادة البريطانيون، الملكة ورئيس الوزراء، الكثير من المعلومات عن الضيف الكبير؛ كيف يفكر وموقفه من قضايا الخليج ومستقبل الإمارات، فضلاً عن رؤاه في مسار الأوضاع القائمة في المحيط الخليجي الموسوم بالاضطراب والقلق الذي شكلته إيران كعادتها طوال التاريخ.
أهم النصوص التي تضمنتها تلك الوثائق أن الشيخ زايد يحمل مشروعاً وحدوياً كبيراً لا يقتصر على وحدة الإمارات، لكنه سوف يمتد طموحه إلى تحقيق نموذج من التعاون على مستوى الخليج، وهكذا كان؛ حين تحقق اتحاد الإمارات عام 1971، ثم مجلس التعاون الخليجي الذي وقع عليه الزعماء الخليجيون في أبوظبي تقديراً لجهود زايد في الدعوة للم الشمل الخليجي عام 1982.
أمّا ما تبقى من التجربة الوحدوية في الإمارات فالعينة بينة كما يُقال، إذ يكفي أن الإمارات أضحت الآن نموذجاً للتجارب الناجحة المتميزة في مجالات السياسة والاقتصاد والتنمية المستدامة، وأصبح شعب الإمارات أكثر الشعوب سعادة بالقياسات العالمية للسعادة.
وربما تكون هذه الجزئية المرتبطة بالسعادة أعلى الأوسمة التي وضعها العالم على صدر الإمارات، إذ كيف نقيس مقدار ازدهار الحياة في المجتمعات، بعيداً عن توفير عوامل السعادة للمجتمعات؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن العناية بالمجتمعات من دون أن نوفر لها السعادة والعيش الكريم الذي تقطف الإمارات الآن ثماره بعد الجهود الخلاقة التي قادها زايد، ومضى من بعده شعب الإمارات رئيساً وحكومة وشعباً. وبهذا تكون الوحدة في الإمارات هي النموذج الناجح الذي يتحدث كثيرٌ من اليمنيين الحكماء عن اعتماده نموذجاً لشكل الوحدة اليمنية الجديدة.. وهنيئاً لشعب الإمارات الذي جسدت قيادته حلمه بالوحدة الذي حلم بها الآباء والرواد منذ زايد الأول، الذي وحّد قبائل أبوظبي من ليوا إلى جزيرة أبوظبي إلى العين، إلى عهد حفيده الشيخ زايد أبو الإمارات، الذي بذل جهداً خارقاً بالاشتراك مع إخوانه حكام الإمارات لتحقيق اتحاد دولة الإمارات.
فإذا انتقلنا إلى النموذج الثاني، فقد كانت اليمن دولتين لا يجمع بينهما سوى الاسم، كما حال كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، الآن فضلاً عن أن التاريخ يؤكد أن اليمن الإقليم، لم يجرب الوحدة الشاملة على الإطلاق، كان اليمن وعلى مدى التاريخ يتشكل من دويلات متعددة فيما عدا الحقبة التي احتلت فيها الحبشة اليمن، ومدت نفوذها جنوباً إلى حضرموت.
وكان اليمنيون، كإخوتهم الإماراتيين، تواقين إلى الوحدة، وتوفرت الإرادة، وإن لم تتوفر الإدارة الناجحة لتعميق مفهومها، كي تتجذر في التربة اليمنية ذات الخصوبة الوطنية والوحدوية.
لم يكن علي عبدالله صالح الذي اختطف الوحدة من أيدي الوحدويين الحقيقيين ومضى يتلهى بها ويعبث بمكاسبها، ويشتت رجالها المخلصين بين المنافي والسجون والإقصاء، ومن خانهم الحظ تعرضوا للقتل والتصفيات. لم يكن صالح يشبه زايد في أي شيء؛ إلّا أن سوء طالع اليمن وضع الوحدة كحق في يد من لا يستحق.
الصدف وضعت في يد صالح أمانة غالية، وكأننا وضعنا جوهرة غالية ونادرة وثمينة في يد زعيم عصابة، وطلبنا إليه أن يحتفظ بها ويرعاها، وأن يتحمل مسؤولية تسليمها إلى أصحابها، فماذا عسانا أن نحصل عليه في آخر المطاف وماذا نعلق عليه من آمال؟!
أعود إلى التذكير بترتيب الأولويات للقضايا اليمنية واخترت منهج المقارنة بين نموذج وحدوي ناجح بكل معايير النجاح في الإمارات، ونموذج آخر وحدوي فاشل في اليمن بكل معايير الفشل قاد اليمن إلى حافة الهاوية.
وفي سياق العرض لم يدر بخلدي أن تشاء الأقدار أن تُسِّخر نموذج الوحدة الأولى الناجحة كل إمكانياتها للدفاع عن الوحدة الثانية الفاشلة ، بما في ذلك مهرها بالدماء.