الإنسانية ليست فكرة مثالية تتخيلها بعض العقول التي لا تُنتج، ولا معنى حبيس الخيال، أو طيف يمر في أحلام اليقظة، وليست حروف تتراقص على الألسن، ولا حركات تترنح على الشفاه، ولا حبر على ورق كتبته الأقلام، ولا أمنية تهفوا إليها القلوب.
الإنسانية ليس فصلٌ من كتابٍ اسمه الإنسان، بل هي كلُ الكتاب، هي حروف وكلمات وأقوال وأفعال وحركات….هي همسات وأحاسيس ومشاعر وإحساس….هي أن تُحب لأخيك الإنسان ما تُحب لنفسك… وتكره له ما تكره لها….، والأخوَّة هنا هي الأخوَّة البشرية، والإخاء هو الإخاء البشري… الإنساني، ولا تناقض بين الإخاء البشري والإخاء الديني، لأن كل الديانات إنما هي من اجل الإنسانية، وبعبارة موجزة: الإنسانية مواقفٌ تمشي على الأرض… وواقعٌ يتكلم…. وثمارٌ يانعة….،والرجلُ الإِنْسانِيٍّ : هو الذي يَقُوم بعمل نَموذَجِيٍّ فيهِ الخير لِبَني البشرِ دون تمييز بينهم ويتجاوب ويتفاعل مَعَ ما يجب أَنْ يَكونَ عليه سلوك ومواقف الإِنْسانِ…
فلا قيمة لأي مخلوق من بني البشر إن لم يكن إنسانيَّا، ولا قيمة لأي مكتسبات وعناوين إن لم تكن الإنسانية أصلها وقائدها ومحركها…. هذا إن كان ثمة مكتسبات وعناوين حقيقية من دون الإنسانية، كما يقول “فوفالس”: (لا يمكن لأي إنسان أن يصبح عالِما بمعنى الكلمة من غير أن يصير قبل ذلك إنسانا بمعنى الكلمة).
لعلَّ قضية النازحين في العراق من ابرز القضايا التي وضعت الجميع على المَحك وتحت المجهر، فأفرزت لنا عَيِّنات اختلفت ردود أفعالها تجاه أزمة النازحين وما يعانوه من مآسي وويلات لا يشعر بها إلا مَن كان إنسانيَّا، فالمسؤولون والمتسلطون على الأموال والمتحكمون في القرار غير مكترثين ولا مُبالين لما يجري على أكثر من ثلاثة ملايين نازح، ومراجع الكهنوت الذين يقبضون بيد من حديد على خزائن بيت المال بكل موارده الحقوقية وما تدرُّه المراقد والمزارات وغيرها، لم يخطر في بالهم صرف درهم واحد على مَن تقع (بالدرجة الأولى) عليهم المسؤولية الشرعية والأخلاقية والإنسانية في إغاثتهم، كونهم نصَّبوا أنفسهم زعماء ومراجع وبيدهم صناعة القرار، لكنهم لم يتوصلوا بعد إلى التكليف الواجب عليهم تجاه النازحين!!!، وكأنهم منهمكين في دراسة سند ومتن ودلالة حديث نبي الرحمة ورسول السلام والإنسانية الذي يقول فيه: }لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ـ في الإنسانيةـ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ{، أو أنهم يتباحثون في تفسير قوله تعالى (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، بَيْدَ أنَّ القضية لا تحتاج إلى نظر وتفكر كونها من البديهيات، لأن الإسلام دين الإنسانية، ونبيه نبي الرحمة الذي قام واقفا لمّا مرَّت أمامه جنازة يهودي، فلما سُئِل النبي عن ذلك قال: أليس إنساناً.
ولكي لا نبخس حقوق أصحاب المواقف الإنسانية التي نأمل أن توقظ الضمير وتحي إنسانية من انسلخ عن إنسانيته، ويلتفت إلى معاناة إخوته في الوطن والإنسانية، نجد أن قضية النازحين قد أخذت من المرجع الإنساني الصرخي مأخذا عظيما، وشغلت تفكيره واهتماماته منذ ولادة الأزمة، بل قبلها حيث نبَّه عن مسبباتها وحذَّر من وقوعها، لكن أسمعت لو ناديت حيا….، نعم جدير بالإنساني أن يشير إلى إنسانية الصرخي الذي ما انفكَّ عن التحسس بمعاناة النازحين، وهو أول نازح وقع عليه النزوح والتهجير والترويع والقمع…، خطابات وبيانات ومحاضرات وحلول ومبادرات ومشاريع أطلقها ويطلقها من اجل حَلّ أزمة النازحين وإغاثتهم، ولكن القوم وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، لكي تبقى أزمة النازحين تسير وفقا لما تم التخطيط له في دهاليز إمبراطورية الفرس، فكان مما أطلقه المرجع الإنسان العراقي الصرخي من صرخاته الإنسانية قوله:
(( مئات الآلاف وملايين الناس في الصحاري وفي البراري، وفي أماكن النفايات والقاذورات، وعليهم ينزل المطر ويضربهم البرد، كما مرَّ عليهم لهيب الحر والسموم والشمس وحرارة الشمس وعطش الشمس ومعاناة الصيف، مَرَّ عليهم الصيف ومَرَّ عليهم الشتاء، وتمرُّ عليهم الأيام والأسابيع والأشهر والفصول والسنين، ولا يوجد من يهتم لهؤلاء المساكين، لهؤلاء الأبرياء، الكُل يبحث عن قِدْره ،وعن ما يضع في قِدْره وفي جَيْبِه، وعن ما يملئ به كرشه، من هذه الطائفة أو من تلك الطائفة، من هؤلاء السياسيين أو من أولئك السياسيين، من هذه المجاميع التكفيرية أو من تلك المجاميع التكفيرية، من هؤلاء السُنة أو من أولئك الشيعة، من هؤلاء الشيعة أو من أولئك السُنة، الكُل يبحث عن جيبه، الكُل يبحث عن نصيبه، الكل يبحث عن كعكته، لا يوجد مَن فيه الحد الأدنى من الإنسانية، الحد الأدنى من الأخلاق،، حلبة من الصراع الكُل يشترك بها، هذه الدولة أو تلك، هذه الطائفة أو تلك، هذه المجموعة السياسية أو تلك، هذا الفكر أو ذاك، هذه الفضائية أو تلك، لا يوجد نقاوة، لا يوجد صفاء، لا يوجد إنسانية، لا يوجد أخلاق، لا يوجد عدالة، كُله لَوَث، كُله شائبة، كُله إشراك…))
مواقف عملية وحملات كبرى وقوافل من المساعدات أمر بها المرجع الإنساني بالرغم من تواضع الإمكانيات توجهت إلى إخوتنا النازحين في لوحة عَبَّرت عن أنبل صور ومعاني التواصل والتراحم والتآخي والإنسانية، كشفت مُجددا عن إنسانية الصرخي وأن النازحين في ضمير المرجعُ الإنسان، والإنسانُ المرجع.