نون والقلم

العروبيون اللبنانيون وذكريات الجلاء والاستقلال

تنظّم مجلة «الإيكونومست» الإنجليزية مسابقة سنوية لمنح «جائزة بلد العام». وقد منحت هذه الجائزة منذ أيام قليلة إلى دولة ميانمار لأنها تمكنت أخيراً من اجتياز مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، بعد أن حقق الحزب المعارض فوزاً تاريخياً، إذ نال ثلثي أصوات الناخبين. مع هذه النتيجة لم يتمكن الجيش من إلغاء الانتخابات، كما فعل في الماضي ووجد كبار الضباط أنه من الأسلم الاعتراف بالواقع الجديد.

إن هذه التجربة تدخل التفاؤل إلى قلوب الديمقراطيين في العالم، وتصلح كتجربة قابلة للتكرار في الدول التي لا تزال تعاني الأنظمة الأوتوقراطية.
ولكن إلى جانب مغزى النجاح الذي حققته ميانمار، من المفيد الانتباه أيضاً إلى مغزى التنافس الذي سبق الفوز بالجائزة، والتوقف عند أسماء الدول التي رشحت للفوز بها والاعتبارات التي دعت إلى ترشيحها. فلقد جرى ترشيح البعض منها مثل نيجيريا وغواتيمالا وكولومبيا لأنها مشت خطوات على طريق التحول الديمقراطي. ورشحت بعض الدول الأخرى لأنها اتخذت موقفاً إنسانياً وأخلاقياً تجاه قضية اللاجئين مثل ألمانيا والسويد والأردن ولبنان.
ولكن بين هذه الدول، كان الأقرب إلى استيفاء دفتر شروط النجاح بعد ميانمار هو لبنان لأن نسبة المهاجرين إلى أراضيه فاقت نسبة المهاجرين من سوريا إلى أراضي أي بلد آخر في العالم. فضلاً عن ذلك فإن في لبنان 425.000 لاجئ فلسطيني يقيمون بصورة دائمة كما تقول سجلات وكالة «الأونروا» الدولية. هذا يعني أن نسبة اللاجئين إلى عدد سكان البلاد الأصليين تكاد تصل إلى الثلث تقريباً.

إضافة إلى الضغط الديموغرافي وإلى تداعياته فهناك ضغوط أخرى يعانيها لبنان. فهو يفتقر إلى الرخاء الاقتصادي والاجتماعي الذي تتمتع به ألمانيا أو فرنسا، وإلى أوضاع الاستقرار السياسي النسبي الذي يميز الأردن. وهذا الواقع يقلل من قدرته على مواجهة تحديين كبيرين:

يتمثل الأول في التحدي «الإسرائيلي». ف «إسرائيل» لا تزال تحتل بعض الأراضي اللبنانية، وهي تنتهك الأجواء والمياه الإقليمية باستمرار، وتلوح بالهراوة العسكرية لإجبار لبنان على تقديم تنازلات تتعلق بحقه في مياه الأنهار التي تمر في أراضيه، وفي حقه في حقول الغاز والنفط التي اكتشفت في مياهه الإقليمية. وهي بممارستها أعمال التنكيل والسلب والنهب بحق الشعب الفلسطيني، تثير ردود فعل صاخبة وناقمة بين الفلسطينيين المقيمين في لبنان وعموم اللبنانيين، وبالتالي تزيد في تفاقم المشاكل السياسية التي يعانيها اللبنانيون.
ويتمثل التحدي الثاني في تحمل لبنان أعباء مكافحة الجماعات الإرهابية ورد خطرها على اللبنانيين. فهذه الحركات تجد في لبنان تحدياً كبيراً لها، إنه بلد متعدد الأديان ويقف على قمة الهرم فيه رئيس مسيحي، وتتمتع فيه المؤسسات الدينية والثقافية المتنوعة الطابع بمكانة مرموقة في موازين السياسة والاجتماع. ثم إن لبنان مشى خطوات على طريق الحداثة وهناك رأي عام لبناني يطالب بالمزيد منها. كل ذلك يشكل تحدياً ترد عليه الجماعات الإرهابية بالعنف وبتوسيع نطاق تدخلها في الأراضي اللبنانية، وبمحاولة تسريب جماعات إلى داخل لبنان وزرع الخلايا النائمة فيه على أساس أن أفرادها هم من اللاجئين العاديين.
وحيث إن لبنان بلد طبيعي، رغم كافة الأزمات التي مر بها، وحيث إن اللبناني ألف حرية التعبير عن الرأي والحراك السياسي، فإن اللبنانيين ينتقدون بحدة الثغرات الموجودة في النظام السياسي ويطالبون بالتخلص منها. وبعد تجارب الحرب خلال عقدين من الزمن تقريباً، يأمل الذين يتطلعون إلى قيام نظام سياسي، ديمقراطي، عصري يطبق التعددية الثقافية والسياسية، يأمل هؤلاء أن تتحقق أمانيهم عن طريق الإصلاح والسلم والنضال السياسي الخلاق.
وتوفر تجارب لبنان الحديث خبرة رائدة من المستطاع الاسترشاد بها، فلقد ولد لبنان وفقاً لخريطة سايكس- بيكو، ولفترة ربع قرن تقريباً جرى تطبيق نظام الانتداب في لبنان وفي الجوار السوري بصورة تعسفية، وعلى نحو يخالف حتى بعض مبادئ النظام الانتدابي نفسه. فلقد كان المفروض أن يكون ذلك النظام مؤقتاً، أما فرنسا الإمبريالية فقد أرادت تأبيده، واستندت السلطات الفرنسية في سياستها هذه إلى تأجيج المخاوف الدينية لدى قسم من اللبنانيين زاعمة أن الاستقلال سوف يسلبهم حريتهم وأمنهم.
تمكّن العروبيون اللبنانيون بفضل نضجهم الفكري ووعيهم السياسي واندفاعهم في خدمة لبنان والقضية العربية من إفشال سياسة التحريض الطائفي الذي مارسته السلطات الإمبريالية، ومن إحباط مشروع تحويل لبنان إلى قاعدة عسكرية لترسيخ النفوذ الفرنسي في المشرق. وكانت الخطوة الأساسية على ذلك الطريق التي أقدم عليها العروبيون اللبنانيون في الثلاثينات والأربعينات هي بناء كتلة تاريخية مع الوطنيين والاستقلاليين اللبنانيين ضد الانتداب الفرنسي. واستندت هذه الكتلة إلى فكرة «الميثاق الوطني اللبناني» الذي أرسى مبادئ التوافق بين الفكرتين العربية واللبنانية، فكانت عاملاً أساسياً في استقلال لبنان الناجز، وفي اضطلاع لبنان بدور بارز في قيام جامعة الدول العربية، وبعدها في توقيعه على معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي، وعلى سلسلة من المعاهدات التي تعمّق التعاون مع الدول العربية في المجالات التجارية والثقافية والعسكرية.
حظيت سياسة الميثاق الوطني التي مشى عليها العروبيون اللبنانيون جنباً إلى جنب مع الوطنيين اللبنانيين، بدعم العروبيين في كل بلد عربي وفي سوريا بصورة خاصة. وبفضل هذه السياسة، تمكّن لبنان من نيل الاستقلال الذي احتفل بذكراه قبل أيام قليلة، ومن إخراج الجيوش الأجنبية من أراضيه الذي تصادف ذكراه السنوية في نهاية هذا العام. ولسوف تبقى هذه الذكريات مصدر اعتزاز وفخر للبنانيين.

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button