نون والقلم

من صاحب القرار النهائي في المنطقة العربية؟

يثير كل حدث مأساوي كبير في المنطقة العربية قدراً واسعاً من المناقشات بين المعنيين بهذا الموضوع في المنطقة العربية أو في غيرها من المناطق والأقاليم. هذا ما حدث في منطقتنا بعد أن تفاقمت التداعيات العسكرية والأمنية ل«الربيع العربي»،فانقسم المتناقشون حول أحداثه إلى الجهات الرئيسية الآتية:

الأولى تميل إلى التركيز على دور العوامل الخارجية، وعلى دور الدول الكبرى بصورة خاصة في التأثير في المنطقة. ويميل أصحاب وجهة النظر هذه إلى المبالغة في حجم هذه التأثيرات وصولاً إلى اعتبار أن القوى الخارجية هي المهندس الحقيقي لكل ما يحصل في المنطقة. وإن أمسكت القوى الكبرى عن التدخل في بعض أحداث المنطقة ومتغيراتها فلا يعود ذلك، في نظر أصحاب وجهة النظر هذه، إلى عجز القوى الكبرى، أو البعض منها عن حسم الأوضاع لمصلحتها، ولكن لأنها لا ترى في هذه الأحداث تحدياً كبيراً لها، بحيث تضطر إلى التدخل المباشر والحاسم، أو لأن بعض الدول الأخرى الموالية لها تضطلع بهذا الدور نيابة عن الجميع.

وفي الآونة الأخيرة وكمثال على هذه المقاربة، بات من الشائع العودة إلى اتفاق سايكس- بيكو الذي توصلت إليه الحكومتان البريطانية والفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى، والربط بينه وبين تفكك عدد من دول المشرق العربي. وبحسب هذه النظرية فإن القوى الكبرى في الغرب تعتبر أن سايكس- بيكو أدى غرضه، وأنه آن الأوان لوضع خريطة سياسية جديدة للمنطقة خاصة بعد المتغيرات الديمغرافية الكبرى التي طرأت على المنطقة ككل، إذ تجاوز عدد سكانها الثلاثمئة مليون نسمة، أو على بعض الدول التي قفز تعداد سكانها من بضعة ملايين إلى عشرات الملايين من السكان. وتقف وراء نظرية المؤامرة هذه فرضية الحاجة إلى تقسيم المنطقة إلى عدد أكبر من الدول الأصغر من المساحة ومن عدد السكان. إلا أن نظرية المؤامرة تفتقر إلى الصدقية عندما تعتبر أن الولايات المتحدة تشكو من ضمور سيطرتها على المنطقة، بينما الواقع يدل على أنها تحوّلت من دولة «خارج الإقليم» ودولة أجنبية إلى «طرف إقليمي»،يجمع بين حجم قوته التي تفوق حجم دول الإقليم مجتمعة، وبين سمته الجديدة التي تضفي على تحرك قواته في المنطقة المشروعية حتى ولو كانت شكلية ومرفوضة.
ولا يقتصر حجم النفوذ الأمريكي في المنطقة الذي يغني واشنطن عن تغيير خريطة المنطقة، على حجم وجودها العسكري في الأراضي العربية فحسب، بل أيضاً مدى تأثيرها السياسي في الفاعلين السياسيين فيها. فلقد بلغت المطالبة بتدخل عسكري أمريكي مباشر في الأراضي العربية حداً غير مألوف سابقاً. فضلاً عن ذلك فإن المصالح الأمريكية النفطية مضمونة خاصة بعد ارتفاع نسبة إنتاجها منه، ومشتريات السلاح الأمريكي في ارتفاع مستمر. علاوة على هذا وذاك فإن الفكرة العربية التي ظلت لعقود من الزمن الهوية الجامعة في المنطقة وتوفر الحماية المعنوية والفكرية من مشاريع التسلط الأجنبي، هذه الهوية تعاني اليوم الانحسار. وما تحتاج إليه واشنطن، أو قوى الأرابوفوبيا فيها، هو الحفاظ على الوضع الراهن، وليس تغيره كما تقول نظرية المؤامرة إياها.
الثانية، تجزم بأن العوامل والمؤثرات الداخلية هي التي تلعب الدور الحاسم في سير الأحداث في المنطقة. وتأكيداً لهذا الرأي، يشار إلى أن القوى الأجنبية لم تنجح في تغيير الأنظمة والأوضاع الراهنة إلا بعد التدخل العسكري الذي استنفرت فيه كل طاقاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، ومعها العديد من الدول كما حدث في العراق. كذلك يشار إلى الارتباك الذي تعانيه القوى الكبرى في ردود فعلها على المتغيرات التي تلم بدول المنطقة والى صعود قوى إقليمية حكومية وغير حكومية في موازين القوة والتأثير الإقليميين. ومن ثم يخلص أصحاب هذا الرأي إلى القول إنه لو كان للقوى الكبرى النفوذ الحاسم لما اتسمت خطواتها بالارتباك ولما سمحت بهذا الصعود.

الثالثة، تعتبر أنه من الأفضل تجنب التفسيرات الأحادية لأحداث المنطقة والتفتيش عن أثر العوامل الداخلية والخارجية معاً، التي تقف وراءها. فالذين يتصورون أن القوى الكبرى قادرة على صنع المصير العالمي يخطئون التصور إذا يظنون أن هذه القوى سوف تكون موحدة،وأن هذه الوحدة فيما بينها سوف تستمر طول الوقت. وهذا الانطباع لا يطابق الواقع كما شهدنا خلال الحرب الباردة، وفيما بعدها. والذين يعتقدون أن قوى الداخل الوطني والإقليمي تستأثر برسم القرارات والسياسات يتصورون عالماً غير موجود. فالحدود بين الدول هي في عالم اليوم أقرب إلى العالم الافتراضي. إن هذه الحدود تحمي السيادة الوطنية إلى درجة عالية،ولكن ليس كل الوقت وفي كل مكان.

بين هذه المقاربات تبدو الأخيرة الأقرب إلى الصواب. فالتأثيرات الخارجية تتفاوت مع تقادم الزمن وتبدل مسارح الأحداث بحسب اعتبارات كثيرة منها الأوضاع الدولية. فسياسة «الانعطاف» التي باشرت واشنطن في تطبيقها في شرق آسيا تحد من قدرتها على التحرك في المنطقة العربية. كذلك فإن الأزمات المتراكمة على المسرح الأوروبي مثل الأوضاع الحرجة في أوكرانيا واليونان، تحد من حرية حركة الاتحاد الأوروبي في المنطقة العربية.
بالمقابل، فإن هذه التأثيرات الخارجية التي ألمت بالمنطقة العربية توفر فرص صعود الزعامة الإقليمية لبلدين مثل إيران وتركيا. وفي كافة الحالات تبقى للقوى والدول الصغيرة القدرة على الدفاع عن مصالحها وسيادتها الوطنية إذا ما نجحت في تكوين تحالفات وتكتلات راسخة ودائمة ومنتجة لعوامل القوة والاستقرار.

نقلًا عن جريدة الخليج..

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى