«الحسابات الخاطئة تعود من بغداد». مثل تركي ينطبق على مصير القوة التركية القتالية التي دخلت بعشيقة شمال الموصل. المثل يقول إن الحسابات الخاطئة تتكسر على أبواب بغداد. وقد فعلها الأتراك هذه المرة على أرض الواقع. من دون مقدمات أرسلت أنقرة قوة من ألف جندي و25 دبابة إلى منطقة في شمال الموصل بذريعة أنها تنفيذ لاتفاقات سابقة ولحماية عناصر تدريبية سابقة، وأيضاً لمحاربة «داعش».
كل واحدة من هذه التبريرات غير مقنعة. فوزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري حسم في نقاشات البرلمان العراقي أنه ليس هناك أي اتفاقية مع تركيا بهذا الخصوص. أما حماية العناصر التدريبية فلا تحتاج لهذه القوة أصلاً، وليس من حق تركيا إدخالها قبل الاتفاق مع الجهة المعنية، أي الحكومة المركزية في بغداد. وفي ما يتعلق بمحاربة تنظيم «داعش» فهذا يثير السخرية، حيث إن مثل هذه القوة الصغيرة لا تحرر الموصل ولا تصد هجومات للتنظيم المتطرف. وإذا كانت تركيا جادة في محاربة «داعش» والإرهاب فليس عليها سوى أن تذهب إلى منطقة جرابلس واعزاز حيث تتمركز «داعش»، وعلى الحدود التركية مباشرة بخلاف «داعش» في العراق.
دخول القوة التركية إلى العراق بهذه الطريقة الملتوية هو دخول غير شرعي ولا مسوغ قانونياً له في العلاقات الدولية. ومع ذلك، منذ اللحظة الأولى قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن مسألة سحب القوة التركية غير وارد على الإطلاق. كان يريد أردوغان أن يوجه رسالة إلى الجميع بأن المسألة ليست تواجد قوة قتالية في بعشيقة أو غير بعشيقة.
بل كان يريد أن يقول للجميع إن لتركيا مصالح في العراق تتصل بمستقبل الدولة الكردية وتوسعها، وبحزب العمال الكردستاني المتواجد في منطقة إقليم كردستان، وبمستقبل أي كيان سنّي يمكن أن ينشأ في العراق تحت أي مسمى، وتريد تركيا أن تكون هي الحامية والراعية له وليس أحداً آخر، وأن تركيا هي في العراق لموازنة الحضور الإيراني والروسي في المنطقة ولفتح ثغرة في الحصار الروسي على تركيا بعد إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا.
لا نناقش هنا شرعية الهواجس التركية من عدم شرعيتها من كل هذه العناوين. لكن الأسلوب الذي اعتمدته تركيا في العراق ومن قبل في إسقاط الطائرة الروسية، ومن قبلهما التذاكي في محاربة «داعش» يطرح علامات الاستفهام حول قدرة القيادة التركية على التفكير بطريقة صحيحة وخارج الحسابات الخاطئة التي تتكرر منذ بدء ما سمي بالربيع العربي.
هل كان أردوغان يحتاج إلى إسقاط طائرة روسية لكي يتعرض لهذا الكم من الخسائر الميدانية، مثل طي صفحة التفكير في منطقة عازلة، ومنطقة حظر جوي في سوريا، وزيادة الدعم الروسي للنظام السوري ميدانياً، وتوسيع وتعزيز الوجود العسكري الروسي في سوريا والمتوسط والبحر الأسود، كما لتعرضها لعقوبات اقتصادية كبيرة من الشريك الأكبر لها والجار الجغرافي الأكبر؟
هل كان أردوغان مضطراً لأن يرسل قوة غير شرعية وينتهك السيادة العراقية لكي يضطر لاحقاً إلى سحب هذه القوة، أو قسم منها أو تحريكها من بعشيقة، ولو إلى منطقة أخرى في العراق تابعة لإقليم كردستان؟
لقد خسرت تركيا في البداية سوريا والعراق، وبعد ذلك خسرت مصر ودولا عربية أخرى. وأضحت تركيا بنظر وزير خارجية تونس دولة إرهابية بعدما تحولت تونس في عهد حركة النهضة إلى حديقة خلفية لتركيا في شمال إفريقيا. والآن تخسر تركيا وهي الخسارة الأكبر، الشريك الروسي الكبير. وعلاقاتها مع الولايات المتحدة متذبذبة لا يحميها سوى أن تركيا عضو في حلف الناتو، وأنها حاجة ماسة للغرب في المواجهة مع روسيا، ولولا ذلك لكان هناك كلام أمريكي آخر في كل الواقع التركي، جغرافياً وسياسياً وعسكرياً.
تراجع آخر يرقى إلى مرتبة الهزيمة المجانية التي جلبتها تركيا لنفسها. هزيمة لا نظن أن أنقرة ستتعلم منها أي درس سوى الإكثار من الخصوم وتكتيلهم ضدها، ولن يكون الخطأ الأخير ولا الهزيمة الأخيرة.
نقلًا عن جريدة الخليج..