نون والقلم

استراتيجية سياسة أمريكا الخارجية في الميزان

وسط زحام حوارات المحللين السياسيين، والأكاديميين، تطرح تساؤلات أكثر من كونها أفكاراً باحثة عن جواب، عن احتمالات الصدام بين القوى الدولية، أو انقلاب التحالفات، أو الخصومات التاريخية.

لكن الإجابة تظل عصية، بسبب الضبابية المحيطة بطبيعة الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، التي هي مصدر الإلهام لسياستها الخارجية، وما تواجهه الولايات المتحدة من صعوبة صياغة استراتيجية عالمية راسخة ومستقرة، نتيجة لأوضاع العالم، الذي تراه معقداً، وتسوده الاضطرابات ما يحول دون القدرة على وضع قائمة واحدة، تحتوى على المبادئ التي تقوم عليها سياستها الخارجية.
والاستراتيجية العالمية في مفهوم العلوم السياسية، هي معمار فكري، يعطي الشكل والبناء للسياسة الخارجية للدولة، وهي إطار يساعد الدولة على تحديد أي اتجاه مضى فيه، وكيفية تحقيق أهدافها. كما أن الاستراتيجية العالمية هي التي ترشد القادة السياسية إلى أسلم الطرق لتحقيق أمن بلادهم، خاصة في عالم معقد وغير آمن.
ويتضمن مفهوم الاستراتيجية العالمية تقييماً حقيقياً لطبيعة العالم، والتهديدات التي تواجهه، وموارد وقدرات الدولة على السير نحو إنجاز أهدافها الوطنية، والخيارات السياسية المتعددة المتاحة لها، لكي تحقق النجاح. وهي ليست مجرد خطوات دبلوماسية أو عسكرية، لكنها منظومة متكاملة، لتبادلية العلاقات، والمصالح مع العالم الخارجي، كما أن الاستراتيجية العالمية، تسمح بمراعاة الظروف المتغيرة، داخلياً وخارجياً، وبتطوير نفسها في ضوء المتغيرات.

وفي فترة السنوات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، تبنت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس ترومان، الاستراتيجية العالمية، التي عرفت باسم الاحتواء. أي احتواء نفوذ الاتحاد السوفييتي وحلفائه في أوروبا الشرقية، داخل حلقة حصار من السياسات والقواعد العسكرية. ثم تأكدت معالم هذه الاستراتيجية في عهد الرئيس نيكسون، ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، وجهود الرئيس ريغان أيضاً ، في تصعيد المواجهات مع الاتحاد السوفييتي، وبعد ذلك السياسة الخارجية الهجومية في عهد جورج بوش الابن.

وطوال السنوات التي مرت من بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1989، وأوائل التسعينات، حاولت الولايات المتحدة التوصل إلى مبادئ لاستراتيجية عالمية جديدة. لكنها أخفقت في مساعيها، لأن العالم كان يتحول نتيجة صعود الصين، وقوى أخرى، يتنامى نفوذها في مناطقها الإقليمية في آسيا وأمريكا اللاتينية.

لكن اضطراب الوضع الدولي نتيجة الصعود التدميري للإرهاب، الذي مد أذرعه إلى داخل أوروبا، وعودة التشاور والتنسيق بين أمريكا وأوروبا من جهة، وروسيا من الجهة الأخرى، بعد فترة من التوتر والتباعد، أوجد مناخاً دولياً، يغلب عليه غياب الرؤية الواضحة، واليقينية تجاه المستقبل، ما يحول دون صياغة استراتيجية عالمية عاجلة للولايات المتحدة.

من ثم، سوف تظل سياسة أمريكا الخارجية نهباً للتناقضات، والاضطراب لفترة قادمة، إلى أن تقتنع بأن العالم المتغير من حولها له دورة تاريخية من الصعود والهبوط للقوى الكبرى، لا تستطيع أن تقف في طريقها، وإلا كانت هي الخاسرة.
لقد ساعدت أوضاع دولية، عسكرية، واقتصادية، وثقافية، على توفير كل الظروف التي هيأت للولايات المتحدة أن تشغل المكانة التي ربطت النظام الدولي، بمفهوم القرن الأمريكي. لكن هذه الظروف لم تعد قائمة، مثلما كانت من قبل، ما جعل الكثيرين في الغرب، يقتنعون، بقرب أفول شمس القرن الأمريكي، وحلول حقبة مختلفة، يميلون إلى وصفها بالقرن الآسيوي.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى