ابتداء وتجنباً لأي سوء فهم، نعني بالنظام العربي في هذا الحديث، النظام الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وعبرت عنه جامعة الدول العربية، التي تأسست بسبعة أعضاء، هي الدول العربية، التي تمكنت من حيازة استقلالها السياسي، لحظة تأسيس الجامعة.
المتغيرات الدولية، ارتبطت في الأغلب بلحظة تحول، سياسي واقتصادي وعسكري، في موازين القوى الدولية. وتاريخياً توثق لحظة التحول، بحرب عسكرية، تحدد شكلها وحدودها طبيعة اللحظة، ومستوى الخلل في ميزان القوة. فتكون كونية، كما في الحربين العالميتين، أو تتخذ شكل حروب إقليمية، أو بين دولة وأخرى، كما هو مألوف في العصر الحديث.
وعلى هذا الأساس، فالحروب ليست مقدمة الأزمات، ولكن هي تعبير عن قمة تصاعدها. وهدفها الحسم، بعد أن تفشل الخيارات الأخرى، في تحقيق الأهداف غير المعبر عنها غالباً.
فليس اغتيال ولي عهد النمسا سبباً لاشتعال الحرب الكونية الأولى، لكنه مبرر إشعال شرارتها. فالعزم الأوروبي على إنهاء السلطنة العثمانية، قد بدأ قبل الحرب الكونية الأولى، بعقود طوال. والرجل المريض بالاستانة، فقد سيطرته على دول البلقان قبل اشتعال تلك الحرب. والقول هذا يصدق على روسيا القيصرية، التي أصابها العجز والفشل، ونخرت قبل الحرب. وكانت تلك الحرب بمثابة رصاصة الرحمة، حيث أسهمت في اندلاع الثورة الروسية، وفي استلام البلاشفة، بعد مدة قصيرة، مقاليد السلطة في البلاد. وبالنسبة للبلدان العربية، لم يرتبط الطموح في استقلالها عن الهيمنة العثمانية، بتلك الحرب، فقد تشكلت جمعيات وأحزاب سياسية، ومنظمات تراوحت مطالبها بين تحقيق الإصلاح والقضاء على العنصرية، التي يمارسها الأتراك، وبين تحقيق الاستقلال الذاتي، ضمن إطار السلطنة، ومطلب الاستقلال الكامل عن الأتراك.
إعلان الثورة العربية، ضد الأتراك، لم يكن وليد لحظة، ولكنه كان نتاج تراكم تاريخي، قدمت قرابين كثيرة، على مذبحه، لعل الأبرز بين تلك القرابين، زعماء اليقظة الذين تم إعدامهم على يد جمال السفاح. وكان اندلاع الحرب العالمية الأولى هي اللحظة المناسبة لالتحاق العرب، بقافلة الحلفاء، من أجل إنجاز الاستقلال السياسي.
أكدت نتائج الحربين الكونيتين، أن النخب السياسية العربية، لم تكن صانعة لتاريخ، وأنها كانت دائماً ملحقة بحوافه. وكان حراك هذه النخبة صدى واهناً لاستراتيجيات رئيسية، لصناع القرار الكبار. ولم يكن فن الممكن، بالنسبة لهم، محكوماً بالإبداع والمبادرة، ولكن بالتبعية والمهادنة. فكانت النتيجة، أنهم أول ضحايا القسمة بين البريطانيين والفرنسيين، والاتفاق بين الصهاينة، والمسؤولين في الخارجية البريطانية.
ولم تكن اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، سوى وجه آخر، لعجز هذه النخبة، وفشلها في رسم استراتيجية عملية لقيادة الكفاح العربي، نحو الاستقلال، وتحقيق حلم النهضة العربية، في الحرية والعدل، والولوج في عصر المعرفة… الحلم الذي بشرت به أدبيات عصر التنوير العربي، ولخصته مقولة رفاعة رافع الطهطاوي، في أن يكون الوطن مكان سعادتنا العامة، التي نبنيها من خلال الحرية والفكر والمصنع.
كانت مرحلة ما بين الحربين، لحظة انهيار للنظام العالمي القديم، وفشل في تشكيل نظام بديل. بل لعل أفضل توصيف لها، أنها لحظة انتقال من نظام دولي لآخر، لم يتشكل إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حين تأسس نظام دولي، على قاعدة الثنائية القطبية.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن النظام العربي المعاصر، الذي نحن بصدد تناوله تأسس في نهايات مرحلة الانتقال، من الفوضى السياسية التي مر بها العالم، بين الحربين، ولم يكن لها أن تنتهي إلا بعد الحرب. فالحرب العالمية الأولى، كانت بالفعل حرباً لم تكتمل أركانها بنتائج تجعل من السهل، تشكيل نظام دولي متين. ذلك أن أركانها الرئيسية، كانوا في عداد من دخلوا في غياهب الخريف. وكانوا كما العثمانيين، ينتظرون الحرب الكونية الثانية، لكي تطفئ شمس إمبراطورياتهم العتيدة، الإمبراطوريات التي تكرر القول إن الشمس لا تغيب عنها.
أول معضلة واجهها النظام العربي، الممثل في جامعة الدول العربية، أنه تعبير عن توجهات وتطلعات قوى «عظمى» تتهيأ للرحيل. وكان منطق إزاحة الاستعمار التقليدي، عن المشهد السياسي الدولي، قد بدأ يعبر عن نفسه، بشكل واضح وصريح خلال سنوات الحرب الأخيرة، حين أعلن الرئيس روزفلت سياسة الباب المفتوح، الذي مثل الإعلان المباشر بانتهاء عصر الاحتكار، وبأن للولايات المتحدة الحق في منافسة المهزومين بممتلكاتهم.
مرحلة الاستقلال الوطني، هي بالتأكيد مرحلة مجيدة وناصعة بالتاريخ العربي، وتاريخ شعوب العالم الثالث، لكنها لم يكن لها أن تتحقق إلا في ظل شيخوخة النظام الدولي القديم، والمتغيرات التي شهدها العالم بعد الحرب، والتي عبر عنها تربع اليانكي والدب القطبي على عرش الهيمنة الدولية.
وقد كان لذلك إسقاطاته السريعة على النظام العربي. فجامعة الدول العربية، التي كان يفترض فيها أن تمثل مصالح كل العرب انقسمت في ولائها لخندقين، تبعاً للتشكل الدولي. وكان لهذا الانقسام، تأثيراته في التوجهات الإيديولوجية، وطبيعة التشكل السياسي والاقتصادي للأقطار العربية. ولذلك كانت قرارات الجامعة، قائمة على الخداع والتلفيق وجمع المتناقض في سلة واحدة. والأخطر، هو تأثيرات ذلك الانقسام في الصراع العربي مع الصهاينة.
انتهت تلك المرحلة بالتسعينات من القرن المنصرم، لتحل بعدها مرحلة أعتى وأخطر، طرحت فيها مشاريع التفتيت، على الأسس الطائفية والمذهبية والعرقية. وكانت مرحلة فتح ملفات لأجندات قديمة، تقرر أن يجري تنفيذها بعد الحرب العالمية الثانية، وفقاً لترتيبات القسمة في يالطا، لكنها أعيقت بالحرب الباردة، ومع هيمنة المحافظين الجدد سادت القناعة لديهم، بأوان تنفيذها.
نحن الآن على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، تقتضي عربياً فتح كل الملفات، ورسم سياسات جديدة من قبلنا، لا تجعلنا صدى واهناً في المعادلة الدولية. سياسات تجعلنا في القلب من حركة التاريخ، وليس على هامشه أو حوافه.