لم يكن هناك حوار استراتيجي بأي معنى جدّي بين الولايات المتحدة ومصر، أي حوار يستحق هذا التوصيف يستدعي فتح كل الملفات، أين أرضية الاتفاق وكيف نثبتها، وأين نقاط الاختلاف وكيف نذلّلها؟ هذه مسألة رئيسية قبل بناء أي تفاهمات من طبيعة استراتيجية تتأسس عليها خطط وإجراءات وتحركات منسقة تؤثر في مجريات الأحداث.
هناك فارق بين تخفيض مستوى التوتر الذي نشأ بين البلدين في أعقاب ٣٠ يونيو/حزيران، وبين تأسيس علاقات لها صفات الصلابة والثبات والثقة، المبالغة في الأوصاف تضر بسلامة النظر إلى الحقائق.
الاقتراب الأمريكي الجديد يعود إلى اعتبارين رئيسيين، أولهما: الأهمية الاستراتيجية للموقع المصري الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
وثانيهما: استقرار النظام الجديد وضرورات التعاطي مع الحقائق على الأرض.
وفق هذين الاعتبارين أفرجت الإدارة الأمريكية عن أسلحة ومالت لغة وزير خارجيتها «جون كيري» إلى ترميم ما تصدع.
كان مجاملاً بأكثر مما هو معتاد لإرضاء رأي عام غاضب من السياسات الأمريكية من دون أن تتجاوز المجاملات طبيعتها.
تخفيض لهجة انتقاد الأوضاع الداخلية وملفات الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، لا يعني تنحيتها مستقبلاً، فكل شيء يخضع لمقتضيات المصالح المتغيرة.
عندما تستكمل مقومات دولتك الحديثة يمكنك أن تحاور العالم بثقة أكبر بالنفس، وتمنع أي ثغرات تستخدم في الضغط عليك.
هذه حقيقة تستحق التأكيد عليها بلا كلل.
في الحوار المصري الأمريكي يصعب الادعاء أنه جرى التوصل إلى أي تصورات مشتركة في ملفات الإقليم المشتعلة.
ولا جرت أي مقاربات تتجاوز العناوين العامة للأدوار الإيرانية المحتملة فوق رقعة الإقليم بعد «اتفاقية فيينا».ولا أي مقاربات أخرى للأدوار التركية المنتظرة بعد دخولها خط العمليات العسكرية ضد «العمال الكردستاني» و«داعش» والأول أكثر من الثاني.
أيّ حوار استراتيجي في ملفات إقليم يمر بحالة سيولة لا مثيل لها يتطلب شيئاً من الصلابة، وهذا لم يحدث في أيّ ملف.
في التحركات الدولية والإقليمية هناك أولوية للملف السوري.
الأزمة اليمنية إقليمية حتى الآن ولا تضغط أحداثها على أولويات القوى الدولية.
والأزمة الليبية في عهدة المبعوث الأممي «برناردينو ليون» إلى حين أي تطورات دراماتيكية تربك الحسابات الحالية.
والأزمة السياسية الداخلية في لبنان مؤجلة لحين حسم العقدة الكبرى في الإقليم.
والأزمة العراقية تنتظر حسماً عسكرياً في الحرب مع «داعش» بتنسيق أمريكي إيراني.
والملف الكردي تحت التفاعلات الحادة، «مسعود برزاني» يعلن ضم أراض جديدة إلى إقليم «كردستان العراق»، وعملية السلام التركية الكردية تقوّضت بالكامل وتهدّد بأزمة داخلية عاصفة قبل، وبعد الانتخابات النيابية المبكرة، وطهران تتحفز لسيناريوهات ما بعد «داعش» بحضورها الفعلي على مسرح العمليات وفي عقيدتها أن دولة كردية مشروع تفكيك لإيران ذاتها.
في أيّ ترتيبات محتملة، فإن السؤال الأكثر جوهرية: ماذا بعد الحرب على «داعش».وأية خرائط جديدة تنتظر الإقليم؟ إذا لم تكن هناك إجابة عن هذا السؤال فإن ما توصف بالحوارات الاستراتيجية أقرب إلى خديعة تحت وهج الكاميرات.
لماذا أولوية الملف السوري؟ لأنه عقدة الموقف في الإقليم كله، إذا حلحلت أمكن النظر بطريقة جديدة إلى الملفات الأخرى.
في التقدير الأمريكي لا يمكن حلحلة العقدة السورية من دون تفاهمات مع إيران.
المعنى أننا إذا لم نكن طرفاً في التسوية فسوف نكون موضوعاً لها.
وقد كان لافتاً غياب الخارجية المصرية عن المباحثات الثلاثية الأمريكية الروسية السعودية في الدوحة، رغم ما يجمعها مع أطرافها من علاقات توصف بالاستراتيجية.
هناك اتصالات مصرية روسية غير معلنة بالشأن السوري لم تصل إلى «تفاهمات أخيرة»، على ما قال لي الوزير سامح شكري.
وهناك اقترابات مصرية سعودية في الشأن نفسه لتطويق الخلافات الماثلة من دون أن تسفر عن شيء من التفاهم، بينما الملف يتأهب لأوضاع جديدة بتفاهمات أمريكية روسية إيرانية محتملة.
بالنسبة إلى القاهرة القضية ليست «بشار» بقدر ما هي المصير السوري نفسه.
هذه قضية أمن قومي مصري مباشر بأي معنى استراتيجي أو تاريخي. ورغم وضوح الرؤية فإنها لم تقدم على أيّ مبادرة.
المثير أن القاهرة أقرب إلى موسكو من واشنطن في النظر إلى الأزمة السورية من دون أن يوصف هذا الاقتراب بأنه استراتيجي.
إذا لم تكن هناك تفاهمات حقيقية للخروج من الأزمة الدموية التي باتت عبئاً على الضمير الإنساني فإن الحديث عن حوارات استراتيجية أقرب إلى خداع النفس قبل الآخرين.
الأمر نفسه في الملف الليبي الذي يدخل مباشرة في الأمن القومي المصري.
العناوين العامة تصطدم بالتفاصيل الجارية.
كلام عن محاربة الإرهاب من دون تحديد أي جماعات نحارب، وأيّ جماعات أخرى تدخل في العملية السياسية المقترحة.
وكلام آخر عن تثبيت الدولة من دون أن يكون واضحاً ما الذي نقصده بالضبط، وما إذا كان تسليح الجيش الوطني الليبي ضرورياً لبناء الدولة أو هو ميليشيا من ضمن الميليشيات التي يتعين فرض قيود دولية على تسليحها.
التناقضات فادحة بين الموقفين المصري والأمريكي رغم ادعاءات الحوار الاستراتيجي.
وبالقدر نفسه، يصعب إضفاء أي صفة استراتيجية على حوار «كيري» مع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي في الدوحة.
هناك فارق بين طمأنة الحلفاء في الخليج من تبعات اتفاقية «فيينا» وأن تكون هناك رؤية واضحة للمستقبل.
لم يكن لدى «كيري» ما يقوله سوى أن هذه الاتفاقية «الخيار الأفضل لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي»، ولا ما يفعله سوى أن يشارك الوزراء الخليجيين القلق نفسه من السلوك السياسي الإيراني المحتمل.
هذا كلام لا يليق بدولة عظمى في حجم الولايات المتحدة.
شراكة السياسات قبل شراكة القلق أهم وأجدى.
ولم يكن الوعد بتسريع إمدادات السلاح والتعاون الاستخباراتي سوى تعبير عن الشراكة الثانية.
لم يمتد الحوار الأمريكي الخليجي إلى ما يجري تحت الطاولة من تفاهمات محتملة أمريكية إيرانية في ملفات الإقليم.
بكلام صريح الحوار الأمريكي الإيراني الوحيد الذي يستحق صفة «الاستراتيجي».الملفات تفتح والتفاهمات محتملة على مواقف وترتيبات وتسويات بامتداد أزمات الإقليم.
بكلام صريح آخر، إيران تتعرض للضغط لتطويع سياساتها وفق متطلبات المصالح الغربية لا مصالحنا نحن.
غير أنه في كل الاحتمالات لا تراجع عن الاتفاق بشأن برنامجها النووي في أي مدى منظور.
اللعبة سوف تستكمل حلقاتها، وبعض ما يجري في الغرف المغلقة أهم مما يعلن أمام الكاميرات في الحوارات التي توصف بالاستراتيجية.
نقلا عن صحيفة الخليج الإماراتية