نون والقلم

إسلام القرآن وإسلام المحدثين

النص الأصلي والتأسيسي الأول في الإسلام هو الوحي الإلهي (القرآن العظيم)، عبره انطلقت رسالة الخلود (الإسلام) وبه ختمت واكتملت، وهو المرجعية الكبرى في التشريع، وذلك «نظرياً لا عملياً» في اللاوعي الإسلامي ما بعد التدوين تقريباً.

أتناول هنا أزمتنا في علاقتنا بالدين، وأعبر بـ«أزمة» لأن ذلك هو واقعنا الذهني والوجداني والروحي المثقل بوعي مأزوم تجاه العلاقة بالدين. نحن، بوصفنا مجتمعاً مسلماً تقليدياً دينياً، من الطبيعي أن ما يشكلنا ويصنع رؤيتنا للكون والحياة والذات والأشياء هو الدين قبل أي مؤثر وقوة ثقافية أخرى، ولأن ما يلون ذواتنا مذ بدء علاقتنا بالكون هو الدين فإننا في حاجة إلى استعاده معرفة ما هذا الدين الذي يكوننا في كل أركان وعينا ورؤيتنا لذواتنا وما حولنا، وخصوصاً أننا نعاني من التشوه الفكري والنفسي والأخلاقي؟

ثمة مجتمعات لا تتأطر بالدين ثقافياً، ويتحول فيها إلى وحدة من وحدات التأثير والتكوين مع مؤثرات ثقافية أخرى بحسب الزمكان، هذه الثقافات ليست في حاجة ملحة وجذرية إلى مواجهة تأثير الدين في إنتاج الوعي، نظراً إلى عدم هيمنة الخطاب الديني واستبداده على تلافيف الوعي.

في مناخ كمناخنا التقليدي يكون الدين هو المسؤول الأول والأكبر في خلق الأجواء الذهنية والوجدانية والنفسية، وليست المشكلة أن يهيمن الدين على مفاصل الوعي كافة متى كان ديناً طهرانياً كما هي حال عصر الرسالة وصدر الإسلام الأول، حيث سخونة ونقاء التجربة الروحية وعدم تكدرها بالإضافات البشرية التي تعدت على صفاء الفيض الإلهي عبر تلويثه بالفهوم والإكراهات المذهبية والسياسية، ذلك أن الدين هبة الله وهو سبيل السعادة في الحياتين.

ثمة سؤال كان يراودني قديماً كبارق يلمع حيناً ويخبو كثيراً، نظراً إلى تخوفي من مواجهة ما كنت أظنه مقدساً، ويتمثل سؤالي بمأزق تعاطينا مع النصين؛ الأول الإلهي (القرآن)، والثاني النبوي (الحديث)، ومدى تنائيهما وتدانيهما مقاصدياً وقيمياً وروحياً.

حينما كنت أقارن بين هذين النصين أجد أنني أمام إسلامين لا إسلام واحد، كما أنني أتأكد أننا نماهي إسلام الحديث (المحدثين) لا إسلام القرآن، وما علاقتنا بالقرآن إلا علاقة شكلانية هامشية غير وقورة.

الإسلام الذي نرتهن إليه لا يصدر من فيوضات القرآن – برأيي – وإنما يصدر من مدرسة وذهنية الحديث والمحدثين.

حال استشراف النصوص التي تهيمن على التشريع نكاد نجد عامتها نصوصاً حديثية لا قرآنية، وبرهان ذلك تقديم الحديث على الآيات المحكمة حتى في أخطر وأدق المسائل الشرعية، وإن كانت الآيات ناصعة وصريحة، ومثال ذلك حد الردة ومسألة الرجم ومسائل أخرى كثيرة، لا يتسع المجال لجردها، التي شرعنت عبر الحديث، وذلك ما يعني أننا أمام تجاوز للحكم والتقرير القرآني.

يصل الأمر إلى توجيه الآيات القرآنية ودفعها نحو معان وأحكام لم تنطق بها، من خلال ما يسمى في علوم القرآن «أسباب النزول» مثلاً، هذا العلم الذي استساغ رواده قيادة الدلالات القرآنية بالنصوص الحديثية، وذلك أن مارسوا ربط الآيات بأسباب نزول حديثية وغالباً ما تكون ضعيفة، وهذا ما كان له دور في تغييب وتحجيم الفهم القرآني ووضعه تحت السيطرة الحديثية.

في كتب التفسير يحاول المفسر أن يجعل النص الحديثي مزاحماً للمعنى القرآني عبر مفهوم تفسير القرآن بالحديث حتى وإن كان السياق لا يتماس ما بين النصين القرآني والحديثي، وينتج من ذلك التعليق لدلالات وروح القرآن،

مقاصد القرآن السامية وقيمه الكبرى وحكمه العظيمة هي روح الدين ومراد الله في تشريع الشريعة، التي كلها خير وسعادة للعباد، لأنها من لدن رب العباد، لو تم التعاطي معها واستلهامها لكنا أمام إسلام غير الإسلام الذي نتعاطاه، حيث التسامح والرحمة والمحبة والحرية في الاختيار، إضافة إلى العلاقة الفردانية في التعبد والإيمان، وهي الأهم والأجل في لغة القرآن، ذلك أن إسلام القرآن يؤكد كما يعلي من قيمة الفرد في علاقته بالدين، إذ يجعل الإنسان في مواجهة ذاته في علاقته بالله والدين، وذلك ما تنابذه لغة دين المحدثين التي تجعل الإنسان ذاتاً تبعية لا تمتلك الحرية والاختيار في العلاقة بالله والدين، وإنما الأطر والسوق والانقياد التعسفي في ممارسة التدين، وذلك ما يكرسه المحدثون ومعهم أتباعهم من المفسرين والفقهاء.

ماذا لو جردنا الإسلام الذي نحايثه من الإضافات التي أدرجها المحدثون في الدين وجعلوها ديناً، واكتفينا من سنة وقيم الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان متواتراً متسقاً ومتساوقاً مع مقاصدية وأحكام القرآن، حينها سنجدنا إزاء إسلام سهل وعفوي لا معرة ولا عنت فيه، كحال إسلام ما قبل التدوين والتقنين ومزايدات المحدثين والمتحالفين معهم من الفقهاء والمفسرين.

(الحصاد) كانوا يقولون إذا صح الحديث فهو مذهبي؟ إذاً ما موقع القرآن التشريعي في اللاوعي الحديثي والفقهي ومدى حضور القرآن في نظم التشريعات؟

الآصار والأغلال التي يشعر بها المتعبد لله في إسلامنا هي نتيجة تفويق الحديث على القرآن الذي «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» بخلاف الحديث الذي يحتمل الباطل والخطأ والنقص والزيادة ، جراء إشكاليات التدوين وما يحاذيها ويحفها من مشكلات تجعل الحديث محتملاً للوضع والتحريف والشك.

لست أدعو إلى انتباذ الحديث، وإنما أدعو إلى وضعه في سياقه الشرعي بوصفه نصاً تابعاً للنص المقدس (القرآن)، ذلك أن القرآن وحي مقدس، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام ليس وحياً بموازاة القرآن، وإن زعم ذلك مؤلهو الحديث، وأنه وحي يوحى، يقول أحمد الريسوني في كتابه «مقاصد المقاصد»: «مما لاشك فيه أن مقاصد الشريعة إنما هي أولاً وأخيراً مقاصد القرآن الكريم، وفي ضمن مقاصد القرآن وتبعاً لها تأتي مقاصد السنة النبوية».

كل تأزم في علاقتنا مع الدين منشأه تقديم الرأي أو النص الحديثي على النص القرآني والروح القرآنية التي يستحيل أن تتضاد والقدرة والاستطاعة البشرية، كما قال تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم»، «يريد بكم الله اليسر ولا يريد بكم العسر»، «ما جعل عليكم في الدين من حرج».

ليست المشكلة في السنة النبوية المطهرة، فهي مشكاة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي أمرنا باتباعه وطاعته، وإنما في المشتغلين على تأليهها ومساواتها أو تقديمها على معطى الوحي (القرآن). المذاهب الفقهية المتضادة كما المذاهب العقائدية، ما هي إلا منتجات آثار ومقولات، وهي تجافي القرآن في جذورها ورؤاها.

نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى