أسبوع دموي بامتياز، ساحته بيروت وباريس، والفاعل في الحالتين تنظيم «داعش».. وليس من المتوقع أن عمليات هذا الأسبوع، ستكون نهاية المطاف. لكن التطور الإيجابي، هو الوعي الجماعي العالمي، الذي تطور مؤخراً بمخاطر الإرهاب، بضرورة تشكيل تحالف دولي قوي للقضاء عليه.
لقد أكدت حوادث الإرهاب، أن الإرهاب ليس له جنسية، ولا يستهدف مكاناً محدداً بذاته، وأنه خطر على الإنسانية جمعاء. والأهم في التصدي لهذه الظاهرة، ليس المعالجة الأمنية في الميدان، والتي باتت مهمة ملحة لا يمكن الفكاك منها، بل التصدي لقواعده ومنطلقاته الفكرية. فالأسماء يمكن أن تتبدل وتتغير، لكن القواعد الفكرية تظل ثابتة، وأساس هذه القواعد، تقسيم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الشرك ويتمثل في كل من يرفض نهج العنف والتكفير، ونهج الإيمان ويتمثل حصراً في تنظيمات التطرف والإرهاب.
بروز الإرهاب، بطابعه المتخفي براية الإسلام، كظاهرة عالمية ارتبط بهزيمة السوفييت، بعد منازلات دموية قاسية. وكانت حوادث 11 سبتمبر عام 2001 أعلى ما وصلته العمليات الإرهابية، عالمياً، قبل انبثاق ما أصبح متعارفاً عليه ب«الربيع العربي».
وإثر الاحتلال الأمريكي للعراق، تصاعدت الأعمال الإرهابية في الوطن العربي بشكل غير مسبوق، حاصدة آلاف القتلى. ولكن انطلاق الحركة الاحتجاجية في أواخر عام 2010 في عدد من الأقطار العربية، شكلت نقطة فارقة في أنشطة المنظمات الإرهابية، المتلفعة بالإسلام.
فقد بات للإرهاب قواعد ثابتة في ليبيا والعراق وسوريا واليمن. وأمست تسيطر على عشرات آلاف الكيلومترات. ومارست دور الدولة في عدد من المحافظات في تلك البلدان.
وخلال السنوات المنصرمة، فشلت الحرب المعلنة على الإرهاب، على الصعيدين المحلي والدولي، نظراً لغياب التقييم الدقيق تجاه ممارسات الإرهاب، وخطورته على الجميع. ما أدى لاتخاذ مواقف تتسم بالازدواجية تجاه سلوكها. فهي حركات جهادية مناهضة للاستبداد، حين يكون الموقف مناهضاً للنظام الذي يواجه الإرهاب. وهي حركات إرهابية بامتياز، حين تحارب نظماً سياسية صديقة، مع أن تلك المجموعات تسلك الأساليب، والمواقف ذاتها في كل الحالات. فجميع الحركات الإرهابية، تتصف بالتعصب والضيق بالرأي الآخر، وتكفر المجتمع، وتعمل على تفتيته وإلغاء الهوية الوطنية. لكن المصالح الضيقة وضبابية الرؤية، تدفعان إلى التمييز بين فريق الإرهابي وآخر.
رفع السلاح من قبل المجموعات الإرهابية، من شأنه أن يسهم في شيوع الفوضى، وتهديد أعراض الناس وأرواحهم وممتلكاتهم. إنه إرهاب موجه ضد الدولة، التي هي أرقى ما وصل إليه التطور الإنساني، من تنظيم وإدارة للعلاقة بين أفراد المجتمع الواحد.
انهيار الدولة يعني العودة لصيغة المجتمعات البدائية، وتهديد للأمن، وتعطيل مصالح الناس. وهو أمر لا يخدم نهوض المجتمع، ويعطل تنمية المجتمع ونماءه ونهضته.
عسكرة الانتفاضات العربية، أدت إلى شيوع ظواهر الإرهاب، بالشكل الحاد الذي بلغ عليه الآن. وهزيمة الإرهاب تقتضي إعادة الاعتبار للدولة، باعتبارها الجامع والضامن لأمن المجتمع ومستقبله واستقراره. لقد شهدنا طوفاناً عاتياً، عصف بأجزاء في عدد من البلدان العربية. نظم سياسية تهاوت، وهويات غابرة طفحت. والدولة القطرية، التي أخذت مكانها في الواقع العربي، صارت ضرورة، ومطلباً لكل من يؤمن بمستقبل هذا الجيل، والأجيال القادمة.
ويقيناً أن تجاوز ما يجري من انهيارات، وإعادة الاعتبار للهويات الوطنية، التي ارتبط حضورها مع مرحلة الانفكاك عن الاستعمار، تقتضي تشخيصاً دقيقاً لما يجري. فربما أدى ضعف التشكيلات الاجتماعية، إلى التشرنق في الماضي، والعجز عن اللحاق بالتطور التاريخي. وشرط الولوج في النهضة، هو تحقيق تنمية حقيقية، بقوى محركة ذاتية، بأبعاد مختلفة، تسرع في تغيير بنية مجتمعاتنا العربية، وتنقلها من حال إلى حال.
وحين نأتي للتدخلات في شؤون الوطن العربي، فليس بالإمكان نفيها. فالسيف مسلط على هذه الأمة، منذ جاء التتار لعاصمة العباسيين. وامتشق الشعب العربي سلاحه، بكل فئاته في مواجهة الغزو الخارجي. وكان الغزو محرضاً على تلاحم شعبي أكبر بين مختلف مكونات النسيج العربي، لكن التدخلات الخارجية وحدها، لا يمكنها أن تكون سبباً في تفرقنا وتمزقنا.
في مرحلة الحرب الباردة، حدث ترصين للعلاقات الدولية، وبعد سقوطها سادت الفوضى، وتغول قطب واحد بتوحش وغطرسة على صناعة القرار الأممي. ونحن الآن في بداية مرحلة جديدة، من الأحادية القطبية. وما يجري الآن هو نتيجة انزياح مرحلة وبروز مرحلة أخرى، لم يتركز حضورها بقوة، حتى هذه اللحظة على أرض الواقع.
ورغم وجاهة تأثير هذا التحول في الخريطة الكونية، لكنه لا يمكن أن يكون بمفرده مبرراً لبروز هويات من خارج التاريخ، أو على هامشه في منطقتنا العربية. والأنكى أن هذه التغيرات، لم تبرز في بروز هويات ما قبل تاريخية فقط، بل صيغة حضورها، الذي ارتبط ببروز ظاهرة الإرهاب.
ما يجري حالياً من حروب أهلية وصراعات بالوطن العربي، ربما مرده تضعضع النظم في البلدان التي اشتعلت فيها حروب التفتيت. لقد عشعش الفساد والاستبداد في هذه البلدان، ونخرها السوس. ونسجت الأنظمة البيروقراطية حبالاً قوية، حالت دون الإبداع والمبادرة. وفقدت تلك النظم مشروعيتها، بسبب عجزها عن مقابلة استحقاقات الناس.
كل ما جرى الحديث عنه من تدخلات خارجية واختراقات للأنساق والأعراف القديمة، صحيح. ولكنه لم يكن بمفرده قادراً على تشويه مجتمعاتنا إلى الحد الذي وصلت إليه، لو لم تكن البيئة مستعدة لاحتضان، التغول المعمد بالدم للهويات الجزئية القديمة. وستظل فتوة النظام وحيويته رهناً بمأسسة الدولة العربية، وشيوع مبدأ المواطنة بديلاً عن صراع الهويات.
هل ستكون حوادث العنف الأخيرة، في بيروت وباريس المعمدة بغزارة الدم، فسحة للمراجعة وتشكيل حلف دولي لقهر الإرهاب، على قاعدة هزيمته في أوكاره وقواعده الفكرية؟ سؤال ستجيب الأيام القادمة عنه، وهل تشي مؤشرات الحراك الدولي بأننا على أبواب مرحلة جديدة، لعلها تكون بداية العد التنازلي للإرهاب، ونهاية لخريف الغضب؟