وسط مشاهد فائضة بالابتهاج والاعتزاز، وتجليات الثقة بالنفس والتمكين، احتفلت مصر أمس بافتتاح قناة السويس الجديدة، بعد أن تمكنت قوة الإرادة وحسن الإدارة، من اجتياز عقبات التمويل والتنفيذ، في وقت قياسي، بدا للكثيرين ضرباً من ضروب المستحيل، حين تم تحديد مدة سنة واحدة فقط لإنجاز هذا المشروع المعوّل عليه كثيراً، لتحقيق نقلة تنموية بعيدة المدى، في إطار خطة أشمل، تعيد لمصر عافيتها الاقتصادية، ودورها الإقليمي، ومكانتها الرفيعة.
كان إنجاز افتتاح القناة الجديدة في موعده المقرر، هو التحدي الأكبر بالنسبة للقيادة المصرية التي بدت راغبة في حينه في تحقيق ما يعرف بشرعية الإنجاز، بل وعلى عجلة من أمرها لتبرير سياستها الصارمة إزاء القوى الداخلية التي راهنت على فشل ما وصفته بالانقلاب العسكري، ناهيك عن مواجهة الإرهاب ومحاولات زعزعة الأمن والاستقرار، ليس بالقبضة الحديدية فقط، وإنما أيضاً بالتنمية المستدامة، المقدر لها أن تجفف المستنقع الذي ينهل منه الإرهابيون أفكارهم السوداء.
وبحسب بعض القائمين على مشروع حفر القناة، فقد كانت الشكوك تساورهم أغلب الوقت، حيال الوفاء بالوعد المضروب. وكانوا لشدة إشفاقهم على أنفسهم إزاء هذا التحدي الكبير، يفتشون سراً فيما بينهم عن أي الذرائع المناسبة أكثر لتسويغ إرجاء افتتاح القناة في الأجل المحدد، وتسويق ذلك أمام رأي عام لا يعرف التسامح، وقوى داخلية وخارجية متربصة، تتحين الفرصة المواتية لتبهيت صورة العهد المصري الجديد، ومن ثم تشديد الحملة الإعلامية الضارية على ما تصفه هذه القوى بالثورة المضادة وحكم العسكر والانقلاب.
وهكذا، فقد كانت الاحتفالات الرسمية والشعبية الباذخة بافتتاح القناة الجديدة أمس، احتفالات تفيض بحس الجدارة والاستحقاق، راكمت خلالها قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي مزيداً من الشرعية، فوق تلك التي استمدتها قبلا من صناديق الاقتراع، وأمدتها بقوة دفع جديدة، وكرستها كزعامة تاريخية ملهمة؛ كون هذا الحدث التأسيسي متعلق بقناة السويس التي كانت المنجز الأبرز لعصر الخديوي إسماعيل، والعلامة الفارقة لزعامة جمال عبدالناصر لدى تأميمها العام 1956، والنقطة المضيئة، وحدها، في أيام أنور السادات، عندما عبر بقواته هذه القناة العام 1973.
وإذا كان من حق المصريين أن يفتخروا بأنهم هم الذين جمعوا من مالهم الخاص 68 مليار جنيه في أسبوع واحد، لتمويل حفر القناة الجديدة، وأنهم هم الذين أتموا هذا المشروع بأيديهم في غضون عام واحد، فإن لنا أن نلاحظ باهتمام حقيقة أن مكان هذه القناة قد حل مكان خط بارليف، وأن لحظة انطلاق الاحتفال قد تم توقيتها في الساعة الثانية وخمس دقائق، أي في لحظة بدء “حرب أكتوبر” قبل أكثر من أربعين عاماً، وأنه تم بناء ستة أنفاق استراتيجية تحت القناة تصل إلى سيناء، الأمر الذي ينطوي على دلالات رمزية بالغة الأهمية، لعل في مقدمتها أن تلك الحرب المجيدة لم تضع أوزارها بعد، وإن كانت تتم اليوم بأدوات جديدة تناسب مقتضيات الزمن الجديد.
ليس صدفة أن يرتبط تاريخ مصر المعاصرة بقناة السويس، أكثر من أي شيء آخر في أرض الكنانة، بدليل أن أربعة من الحروب الخمس التي خاضتها مصر ضد إسرائيل، كان مسرحها حول ضفتي القناة التي قسّمت العالم القديم بين شرق السويس وغربه، الأمر الذي يمكن معه مقاربة شق القناة الثانية بجانب المجرى الملاحي ذاته، على أنه محطة عبور أخرى على الممر الذي عبره الغزاة من كلا الاتجاهين طوال التاريخ؛ من الهكسوس والفرس والفراعنة والعبرانيين والإغريق والرومان، إلى البريطانيين والإسرائيليين.
وعليه، فإن من المقدر لقناة السويس الثانية أن تكون بحق محطة عبور جديدة، تخص المصريين الذين بنوها هذه المرة من دون سخرة، كي ينتقلوا خلالها من زمن العسرة إلى زمن الرخاء، ومن هامش الهامش إلى مركز الصدارة، ومن وضعية القدرة المتواضعة إلى حالة الاقتدار على لعب الدور التاريخي الذي نهضت به هذه البلاد التي عرفت باسم “أم الدنيا” وفاضت به على محيطها العربي علماً وثقافة وفنا وبأساً، فكانت إذا امتلكت قاهرة المعز زمام أمرها، وتعافت صحتها السياسية، تعافى معها العرب وصلحت حالهم بين الأمم والشعوب. وهو ما نرجوه، لمصر ولأنفسنا، غداة افتتاح المجرى الثاني لقناة السويس.
نقلا عن صحيفة الغد الأردنية