قد لا يعير غير المهتم أو المتابع للشأن الإسرائيلي أي اهتمام للمتغير الحاصل في “إسرائيل”، والمتمثل بأوامر اعتقال ضد متطرفين يهود أصدرها وزير الدفاع موشيه يعالون. ولعل هناك من يتفاعل مع مثل هذا الطارىء من خلال مضاعفة الدعاء واللعنات عليها، وكأن أكثر من مليار لعنة يوميا لا يكفيها، أو من باب القول إنها مجرد “بروباغاندا” لتقليل حجم الضرر الناجم عن العملية الإرهابية التي نفذها إرهابيون مستوطنون بحرق الرضيع علي دوابشة وهو حي حتى الموت، وإصابة كل عائلته في قرية دوما قرب نابلس.
لا يمكن لعاقل أن يجحد أن “إسرائيل” ستجند كل أطقمها السياسية والديبلوماسية، وبعض الإعلامية، للتخفيف من هذا الضرر، كما في كل مرة، لكن المتغير الأخير لا يُقرأ بالمجان بهذا الاتجاه العاطفي أو المشهدي فقط، فالإشكال، أو الاستشكال، الذي يقع فيه كثير من العرب هو أنهم دائما يمنحون “إسرائيل” الصورة الوردية والمثالية عن تماسك بنيها كما لو أن لا شيء يقض مضاجع يهود “إسرائيل” بينيّا، أو كأنهم بنيان مرصوص؛ فلا داعي لجهاز المخابرات أن يعمل في ما بينهم، ولتغلق الأجهزة الأمنية والمحاكم أبوابها، وهذه مغالطة كبيرة لا بد من أن يجيد العربي تفكيكها.
إن إصدار أمر بالاعتقال الإداري ضد الإرهابي مردخاي مائير ليس الأول، لكنه أيضا ليس العاشر، فقد سبق وأن صدر أمر اعتقال ضد متطرف قبل سنوات، وأيضا ضد ناشطة السلام طالي فحيما التي وقعت في غرام فلسطيني وعاشت مع أهله في مخيم جنين لكن السياق مختلف. وستصدر أوامر أخرى ضد متطرفين يهود لاعتقالهم إداريا بعد أن كان هذا النوع من الاعتقال يمارس حصرًا على المناضلين والمنتفضين الفلسطينيين. وهنا لُبّ المتغير؛ فعلى عكس ما قد يُرسم في ذهن العربي أنه اعتقال دعائي من باب استنكار حرق الرضيع، وتحسين صورة “إسرائيل” عالميّا حيث الضرر اللاحق بها في اضطراد، إنما هو اعتقال حقيقي وصارم هذه المرة لسببين جوهريين: أولهما، أن حرق الرضيع والعمليات الإرهابية الأخرى التي مارسها، وما طفق يمارسها إرهابيون يهود مثل حرق محمد أبوخضير حيا قبل سنة، وحرق مساجد وكنائس، إنما ذلك يلحق ضررًا بالغًا بإسرائيل التي تسعى جاهدة أن لا تتلقى مزيدًا من الخدوش القوية في صورتها؛ لذلك بدأت في عملية اللجم (الخجول) ضد بعض المتطرفين العنصريين كي لا يهدم إرهابي يهودي ما يحاول بناءه المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة بمفهوم سياسي، أو ما يحاول تحسينه إعلان سياحي.
السبب الثاني من هذا الاعتقال هو توجيه رسالة من جهاز المخابرات “الشين بيت” والأجهزة الأمنية إلى بعض الجماعات الدينية اليهودية المتطرفة بأن سيل “عربدتها” وصل الزبى، وليس المقصود برسالة “الشين بيت” هنا الدفاع عن الفلسطينيين أو كرمًا عليهم، إنما الدفاع عن صورة “الدولة” التي طالما تغنى مسؤولوها أنها حقل الحريات المحاط بألغام “التطرف الإسلامي”، وأنها تحارب نيابة عن الغرب كله كما كانت تروّج إبان المد الشيوعي، فما بات يؤرق بعض الأطياف في “إسرائيل” أن الجماعات الدينية اليهودية المتطرفة تمارس أعمالها كما لو أن لها الحق الأصيل باسم الخالق في هذا، بمعنى أنها لا تعادي الفلسطينيين فقط، إنما اليهودي العلماني الذي تعتبره “كافرًا”، أو كل من لم يلتزم بالشريعة اليهودية مثلما حصل في القدس الغربية قبل أيام حين اعتدى يهودي متدين بالطعن على مشاركين في مسيرة للمثليين.
لم يسبق للعالم، في العقود السبعة الأخيرة على الأقل، أن تحدث عن إرهاب يهودي، لكنه وجد نفسه، طوعًا أو كرهًا، مستخدما هذه العبارة – وبمناسيب متفاوتة- بعد حرق الرضيع، خصوصًا أن يهودًا في إسرائيل وخارجها تحدثوا صراحة عن إرهاب كهذا، وأنه بدأ يشكل خطرًا على صهيونية الكيان.
اللافت أن عددًا لا يستهان به من المحللين والكتّاب والصحافيين والأكاديميين الإسرائيليين قرعوا جرس الإنذار من بداية تفتق ما سمّوه “الجهاد اليهودي” على غرار داعش بعد جريمة حرق الرضيع، مثلما كتب المحلل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت رون بن يشاي في مقال له “قد يكون هناك حفنة من الإرهابيين اليهود، لكن عددهم يكفي لتقسيم المجتمع وجره إلى حرب” وطالب بتعقب ومراقبة الحاخامات، وإعادة النظر في مناهج التدريس. وإن كان الأمر شبه مستحيل في ظل حكومة نتنياهو المقامة أصلا على أحزاب دينية وداعمة للعنصرية والتطرف والإستيطان. لكن مجرد الحديث عن هذا الأمر هو بمثابة التحول الهام الذي يجب أن لا ينظر إليه على أنه مناورة أو لعبة نرد لا أكثر.
في خضم الجدل الناشيء في “إسرائيل” بعد جريمة حرق الرضيع تحدث بعض العارفين بالمسائل الأمنية من الإسرائيليين أن “الشين بيت” قدم توصيات بضرورة اعتقال بعض المتطرفين اليهود والذين يشكلون خطرًا على وجود “الدولة” والمجتمع، إلا أن المحاكم رفضت هذه التوصيات، وأن بعض القضاة متهاونون مع هذا التطرف اليهودي، بل وذهب بعضهم إلى حد القول إن هذه الجماعات اليهودية المتطرفة مدعومة من وزراء وبرلمانيين، وتتصرف فوق القانون، مثل الجماعة الإرهابية “تاغ مِخير” (أي تدفيع الثمن) والتي نفذت عشرات الاعتداءات على الفلسطينيين وممتلكاتهم، وتركت شعارات على منازلهم من قبيل “تدفيع الثمن انتقام اليهود” و”عاش الملك المسيح”.
من هذا المنطلق، يجدر بالعربي، الآن، متابعًا كان أو غير متابع، أن يلج في عملية تفكيك هذا المتغير، خصوصًا أن كثيرًا منا لا تفوق معرفته بإسرائيل أكثر من كونها دولة احتلال غاشم، من دون أن يدرك مثلًا رمزية “العلم الإسرائيلي”، أو ما الخارطة الموجودة على عملة العشر أغورات، وأن هناك صراعًا حقيقيًا بين اليهودي العلماني والمتدين.
نقلا عن دنيا الوطن الفلسطينية