لا مناص من تحوّلات نوعية في مواقف الدول الكبرى ومواقف الدول المتنفذة إقليمياً، بعدما أعلن تنظيم «داعش» أن رقعة عملياته الإرهابية توسّعت إلى أبعد من العراق وسورية وغيرها من دول المنطقة العربية. فهو توجه إلى الرعايا والمصالح الروسية من خلال تفجير الطائرة فوق سيناء. وهو أرعب باريس بجرائمه التي تبدو خليطاً من تخطيط وتنفيذ محلي وفي بلجيك وفي سورية. وهو وضع نيويورك وواشنطن على قائمة عملياته الآتية، ربما وهو في طور الإعداد لعمليات في عواصم أوروبية أو آسيوية أو خليجية أو غيرها.
الرئيس الأميركي باراك أوباما بقي متمسكاً برفضه تغيير استراتيجيته في سورية، مؤكداً أنه لن يقبل بإيفاد جنود أميركيين إلى ساحة الحرب على «داعش»، لكنه وفّر المعلومات الاستخبارية لفرنسا لتقوم بغارات فورية مكثفة ضد «داعش» في سورية انتقاماً من الإرهاب الذي طاول العاصمة الفرنسية، وكان يستهدف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أثناء مشاهدته مباراة كرة القدم.
الرئيس الفرنسي عقد العزم على إبلاغ نظيره الأميركي وكذلك الروسي فلاديمير بوتين بأن الإرهاب الذي ضرب باريس هو إعلان حرب على فرنسا يتطلب التنسيق بين دول حلف شمال الأطلسي وروسيا للرد عليه بفاعلية عسكرية وسياسية في أكثر من مكان بالتعاون مع دول شرق أوسطية. فلقد وسّع تنظيم «داعش» وشركاؤه بيكار مشروعه وأبلغ الجميع أن طموحاته وأيديولوجيته لا تتوقف عند إقامة دولة الخلافة في العراق وبلاد الشام، وإنما مشروعه في الواقع عالمي.
لعل هذه الغطرسة التدميرية هي التي ستولد الاستراتيجيات الجديدة وتؤدي إلى حرب جدّية، عالمية ونوعية على صناعة الإرهاب. ولربما يعجّل انتقال الإرهاب إلى عقر الدار الأوروبي، بهذه الكثافة والتوغل، بمقاربة عسكرية وسياسية ملحة للمسألة السورية بالدرجة الأولى، بكل ما تتطلب من فرز للعلاقات الإقليمية. إنما الخيارات الاستراتيجية لن تقتصر على سورية بتعقيداتها التركية – الكردية، والسعودية – الإيرانية. فمصر اليوم في الواجهة، وكذلك ليبيا واليمن والعراق ولبنان.
لنبدأ بتركيا التي استضافت قمة العشرين هذا الأسبوع وبدا فيها الرئيس رجب طيب أردوغان في ارتياح، لا سيما بعد التعزيز الواضح للعلاقة المهمة بين تركيا والسعودية وقطر في مفاوضات فيينا حول مستقبل سورية، والتي سبقت قمة العشرين في أنطاليا ببضعة أيام.
تركيا قد تحصل، في نهاية المطاف، على موافقة دولية على إقامة مناطق آمنة في شمال سورية لأن إقامة تلك المناطق تساعد في احتواء تدفق هجرة اللاجئين إلى أوروبا. الفارق كبير بين مناطق آمنة ومناطق حظر الطيران، لأن الثانية تتطلب تواجداً وتورطاً عسكرياً للدول التي تقرر فرض حظر الطيران، فيما الثانية تتطلب أقل.
أنقرة قد تحصل أيضاً – بل ستحصل – بموجب الأمر الواقع على إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد لأنه بات، عملياً، موقع إجماع على أنه مولّد الإرهاب ومغناطيسه. وبما أن المواقف الدولية عقدت العزم على أولوية القضاء على الإرهاب، فلن تقبل الولايات المتحدة ولا روسيا ولا فرنسا أن يكون الأسد العصا في عجلة الإجماع الدولي على سحق «داعش» وأمثاله.
لكن تركيا خسرت رهاناً سعت بعزم على ربحه وهو إثارة الولايات المتحدة ضد الأكراد. فواشنطن تمسكت بضرورة مد الدعم المباشر للأكراد باعتبارهم محارباً شريكاً ضد «داعش» لا استغناء عنه، وواشنطن في صدد اتخاذ المزيد من الإجراءات العسكرية الداعمة للأكراد في سورية. وهناك في الأوساط الأميركية مَن يشجع الإدارة على تنشيط علاقات مالية عبر شراء النفط الكردي العراقي مباشرة، وليس من خلال الحكومة العراقية المركزية.
ماذا ستفعل أنقرة إزاء العلاقة الأميركية – الكردية؟ بعضهم في واشنطن يرى أن في إمكان الإدارة الأميركية تقديم ضمانات لتركيا بأن دعم الأكراد لن يصل إلى درجة مباركة قيام دولة كردية ممتدة من سورية إلى العراق إلى إيران إلى تركيا. وبعضهم يرى أن تركيا لن تتمكن من الاستمرار في كونها جزءاً من المشكلة وجزءاً من الحل في إطار نمو التنظيمات الإرهابية في سورية، وبالتالي ستضطر إلى تنازلات.
سيبقى لتركيا نفوذ مع المعارضة السورية، لكن ذلك النفوذ يتفرع حالياً مع ازدياد الدور العلني للسعودية في السعي إلى جمع المعارضة السورية بتنسيق مع تركيا، إنما أيضاً بتنسيق مع روسيا في آن. فالمعارضة السورية التي غابت من اجتماعات فيينا كسبت من تلك المفاوضات برنامجاً زمنياً وموقعاً في عملية سياسية دولية تنطلق من وقف النار. كسبت المعارضة السورية إصراراً سعودياً – تركياً – قطرياً على عدم بقاء الأسد في السلطة، وموافقة روسية ضمنية على التخلي عن الأسد في نهاية المطاف.
العلاقة الروسية – السعودية تتطوّر بصورة متماسكة. موسكو تأمل بإطلاق عملية سياسية لتسوية الأزمة السورية مطلع السنة المقبلة. فترة الـ18 شهراً التي اقترحتها روسيا كرزنامة سياسية للتغيير في سورية قد تتأثر بالرزنامة العسكرية التي فرضتها تطورات هذا الأسبوع والتي تقول مصادر إنها لن تتعدى 4 شهور بسبب الحشد الدولي العسكري المكثف ولأن موسكو تريد استراتيجية خروج من سورية في غضون تلك الفترة.
العلاقة الروسية – الإيرانية، بحسب مصادر أخرى، متوترة لأن هناك في موسكو من يرى أن إيران ورطت روسيا في سورية. والسبب هو أن الركن الأساس للحرس الثوري، قاسم سليماني، أقنع الروس أثناء زيارته إلى موسكو قبل بضعة شهور بأن النظام في دمشق ينهار وهو في حاجة إلى تدخل عسكري روسي لإعادة التوازن وتأمين المصالح، وأن القوى التابعة لإيران مثل «حزب الله» والميليشيات الشيعية قادرة على قلب الموازين على الأرض إذا وفّرت روسيا الغطاء الجوي بغاراتها. وإذ وجدت روسيا نفسها تقصف من الجو فيما الوعود على الأرض تلاشت بسبب القدرات الإيرانية المحدودة، شعرت بالتوريط مرتين. وهي الآن عازمة على استراتيجية خروج من الورطة العسكرية في سورية، ما يترك الجانب الإيراني في ورطة بجنوده المباشرين وغير المباشرين.
إيران تبدو مرتاحة ظاهرياً وهي تروّج لعلاقة تحالفية مع روسيا والدول الغربية للقضاء على «داعش» في سورية وفي العراق، وتجلس إلى طاولة رسم مستقبل سورية في فيينا، وتتأهب لرفع العقوبات عنها بموجب الاتفاق النووي. لكن طهران مستاءة ضمناً لأن لا مقعد لها على طاولة قمة العشرين، فيما للسعودية مقعد مهم، ما يُضعِف الموقف الإيراني. وهي وحدها في عزلة بتمسكها بالأسد على طاولة فيينا في وجه الإجماع على عزله. فحتى ولو كانت إيران تلعب ورقة الأسد للاستهلاك المحلي، فإنها تدرك أنها محيّدة في صنع القرارات في شأن مستقبل الأسد الذي تتمسك به كعقدة، فيما تلك العقدة باتت قابلة للحل بقرار دولي.
تدرك طهران أيضاً أن عملية فيينا لمعالجة الأزمة السورية تضعها تحت المجهر من ناحيتين: أولاً، من خلال عملية تعريف من هم الإرهابيون في سورية، من هم المقاتلون الأجانب، من هي فصائل المعارضة السورية، ومن هي القوات غير السورية التي تقاتل في الحرب الأهلية. فالدعوة إلى مغادرة جميع القوات غير السورية وجميع المقاتلين الأجانب ستطاول إيران ومَن ترعاه، ولن تتمكن طهران من المطالبة ببقاء الميليشيات أو «حزب الله» أو مستشاريها أو كبار قادتها العسكريين في سورية. ثانياً، تعي طهران أنها تنتهك قراري مجلس الأمن الرقم 1737 والرقم 1747 اللذين يحظران عليها أي تواجد عسكري، مباشر أو غير مباشر، بالجنود أو بالذخيرة، خارج حدودها. تعي أن الولايات المتحدة أو بريطانيا لو اختارت اللجوء إلى فضح هذه الانتهاكات لعطّل ذلك الالتزامات برفع العقوبات عنها بموجب الاتفاق النووي. واشنطن ولندن مستمرتان في غض النظر عمداً، وكذلك روسيا والصين وفرنسا وألمانيا، صيانة للاتفاق النووي.
لكن في وسع أي دولة، داخل مجلس الأمن أو خارجه، أن تطرح لدى لجنة العقوبات مسألة انتهاك إيران للقرار الذي تبناه مجلس الأمن بموجب الفصل السابع للميثاق وتقدم الأدلة. فإذا برزت استراتيجية متماسكة للدول المعارضة للتمسك الإيراني بالأسد لتحدي السكوت على انتهاكات إيران لقرار مجلس الأمن، ففي المسألة خطورة. وعلى الأقل، يمكن لواشنطن، إذا شاءت أن تتحدث على حدة مع طهران، لتلوّح لها بأنها قادرة على تعطيل عملية رفع العقوبات، إذا شاءت. ويجب أن تفعل هذا، أقله للتأثير في مواقف إيران التعطيلية.
مجلس الأمن سيتولى مهاماً ذات أهمية وهو يرافق عملية فيينا. فهو مسؤول عن إصدار قرار وقف النار وإنشاء مراقبة دولية له. وهو مسؤول عن صلاحية أو صلاحيات العمل العسكري في سورية إذا لم يكن بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تعطي الدول حق التصرف الفردي دفاعاً عن النفس. وهو أيضاً يرافق، ليبارك أو يصادق، ما يقوم به المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا المكلف في عملية فيينا بإعداد اللجان السياسية والإشراف على صياغة الدستور وإجراء الانتخابات.
الأمم المتحدة لديها مرشح لمنصب رئيس الحكومة الذي ستكون له صلاحيات تنفيذية موسعة، لا سيما خلال المرحلة الانتقالية، فيما ستكون الرئاسة رمزية. مرشحها شخصية ممتازة قادرة على تحمل عبء هذه المرحلة، الأرجح أنها ستكون مقبولة لدى الدول الكبرى والدول الإقليمية ولدى شخصيات مهمة في النظام في دمشق. هناك مرشحان آخران قيد البحث، أحدهما خارج سورية والآخر داخلها، وليس واضحاً مدى القبول بأي منهما. وهناك أيضاً قائمة مفصّلة بأسماء من هو مقبول ومن هو مرفوض قطعاً من أركان النظام. فالعملية السياسية متقدمة.
الغائب الفعلي عن تلك العملية هو مصر التي تقول مصادر إنها حاولت اللعب على التناقضات في وقت لا تتحمل المرحلة اجتهادات، ما أثر على علاقاتها مع حلفائها الإقليميين. كما أن القاهرة منزعجة من ترتيبات إقليمية تعتبرها متعارضة مع مصلحتها المنصبة على محاربة «الإخوان المسلمين».
على رغم ذلك، إلا أن هناك إدراكاً لدى الجميع، بما في ذلك واشنطن، أن من الضروري استعادة مصر كحليف استراتيجي، أقله للحرب على «داعش» داخل مصر أو في ليبيا المجاورة. فمصر مهمة ومن الضروري استعادتها كلاعب استراتيجي أساسي، إنما يتطلب ذلك إدراك تداعيات أخطائها السياسية الإقليمية ولجم بعض إجراءاتها الداخلية باسم محاربة «الإخوان».
ليبيا تشكل خطأً دولياً يجب تداركه ضمن استراتيجية محاربة الإرهاب قبل أن تسقط كلياً رهينة التنظيمات الإرهابية المتنامية. فإذا كانت الاستراتيجية الدولية الآن هي حقاً سحق «داعش» و «القاعدة» وشركائهما، فإن التنبه لليبيا ضرورة ملحّة قبل فوات الأوان.
أما في اليمن، فيتطلب حرمان «القاعدة» وأمثالها من كسب أرض، إيجاد بيئة مؤاتية لإنهاء التحالف العربي العمليات العسكرية هناك. والوقت مناسب للتفكير باليمن من زاوية سحق الإرهاب قبل أن يتحول إلى أرض خصبة لإنمائه مجدداً، وهذا يتطلب مساعدة التحالف على الخروج من اليمن بما يحوّل الموارد والقدرات في اتجاه القضاء على «داعش»، أينما كان.
جديد حدث على الساحة الدولية باستدعاء من تنظيم «داعش» الذي أبدى غروراً عارماً وهو يتوسّع متباهياً بقدراته على الاختراق. «داعش» لم يكن يوماً تنظيماً إرهابياً محلياً بل كان دوماً صناعة عالمية وتنظيماً عالمياً بامتياز دفعت سورية ثمنه غالياً. لعله اليوم أفرط في ثقته بقدراته التدميرية وسيلاقي حتفه، حتى وإن طال الزمن. لكن الخوف، وكل الخوف، أن ترتكب القوى الدولية أخطاء تضاف إلى الخطأ المكلف الذي قام على مبدأ: لنحاربهم هناك كي لا نحاربهم في مدننا. فهذا كان إثماً لا يُغتفر دمّر العراق وسورية، وارتد الآن على الأبرياء.
نقلًا عن جريدة الحياة.