نون والقلم

خريف باريس الحزين

بين السابع من يناير من السنة الحالية، والثالث عشر من تشرين الثاني من ذات السنة، عاشت العاصمة الفرنسية حدثين إرهابيين هزّا أنحاء العالم. ولعل ما حدث مساء الجمعة الماضي، يعتبر أحد أخطر الأحداث التي شهدتها فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

عملية باريس يمكن قراءتها من عدة زوايا ويمكن كذلك استشراف تبعاتها، على المديين القريب والبعيد أيضاً.

الحادثة الكبرى تأتي بعد أشهر قليلة من حادثة استهداف مجلة «شارلي إيبدو». لكن الوقائع تثبت أن فرنسا كانت وجهة لعديد الضربات الإرهابية التي تم إجهاضها، خلال السنة الجارية. وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول تركيز التنظيمات الإرهابية على استهداف فرنسا.

يروى ناجون من مجزرة باتاكلان، أن الشبان الذين اقتحموا المسرح كانوا يرفعون شعارات التكبير ويقولون «إن هولاند تخلى عنّا». وفي مثل هذه التصريحات أكثر من دلالة لفهم ما يحدث في عاصمة الأنوار. فالنخب الفرنسية تعترف بأن بلادهم متورطة في دعم الجماعات المتطرفة التي تتخذ من سوريا والعراق مقاراً لها. ويتوجهون بالتحديد لتنظيم «داعش»، الذي يبدو أنه يقف فعلياً وراء أحداث باريس. دومينيك دوفيلبان وزير الخارجية الفرنسية السابق، قال إن بلاده متورطة في قضايا الشرق الأوسط وفي دعم المتطرفين منذ العام 2003، أي منذ احتلال العراق، وهي تعيش تبعية للسياسات الأمريكية الخاطئة التي تتحمل مسؤولية كل ما يحدث الآن في العالم من اضطرابات أمنية. شخصيات أخرى من اليمين المتطرف الفرنسي حملت المسؤولية للرئيس السابق نيكولا ساركوزي، واعتبرته مسؤولاً عن إقحام فرنسا في حروب وعداءات، كان بالإمكان تفاديها.

من هذا المنطلق تُعتبر مثل هذه العمليات، تصفية حسابات مع الحكومة الفرنسية أو انتقاماً من فرنسا التي يبدو أنها تخلت عن دعم المتطرفين في سوريا، بعد التدخل الروسي القوي ضد هذه الجماعات. أمّا عن كيفية الاستهداف، فإن هناك أكثر من مغزى، في ضرب مقار رياضية وترفيهية وثقافية. المتطرفون يعرفون أن الليل الباريسي حافل، وأن عاصمة الأنوار تظل متمكسة بعاداتها، أي أن المسارح تشهد إقبالاً كثيفاً في نهاية الأسبوع، وكذلك الملاعب الرياضية. وإضافة إلى ذلك فإنّ باريس هي مجتمع متنوع وخليط بشري يصعب التمييز فيه بين الأجناس البشرية، ولذلك يعسر على القوات الأمنية أن تتحكم في حركة تسرب الإرهابيين إلى أهم المعاقل التي يمكن استهدافها. رئيس الحكومة الفرنسية مانوال فالس قال إن «فرنسا مازالت مستهدفة وهي تعيش حالة حرب حقيقية ضد الجماعات الإرهابية، وبيّن أن الأيام القادمة قد تشهد تنفيذ عمليات أخرى في الأراضي الفرنسية. كل ما حدث ستكون له تبعيّات، بعضها إيجابي وبعضها الآخر سلبي. الإيجابي سيتمثل في أن فرنسا وهي قلب أوروبا ستعمل على مراجعة مواقفها من قضية دعم ما تعتبره معارضة معتدلة في سوريا ومن بينها جبهة النصرة، ذراع القاعدة في سوريا، فضلاً عن حسم الموقف من تنظيم “داعش”. ولا أدلّ على ذلك من مسارعة سلاح الجو الفرنسي إلى تنفيذ غارات في مدينة الرقة، والتخطيط لاستهداف تنظيم “داعش” في مدينة سرت الليبية. الأمر لن يتوقف عند الموقف الفرنسي، فألمانيا القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، اعتبرت أن هجمات باريس هي تحدّ للأوروبيين وضرب للقيم الأوروبية، الأمر الذي يستدعي اتخاذ مواقف موحدة. اجتماع العشرين الكبار في مدينة أنطاليا التركية قد يكون تمهيداً لاتخاذ قرار نهائي باجتثاث تنظيم “داعش” وإنهاء وجوده، في سوريا والعراق، وقد يمهد هذا لوضع تنظيمات أخرى على قائمة الاجتثاث.

لكن السلبي في الردّ الفرنسي، سيكون خاصاً بالمهاجرين المقيمين في فرنسا وبقضية اللاجئين السوريين. فالمعروف أن فرنسا هي من أكثر الدول الأوروبية التي أصبحت، أكثر تشدداً في معاملة المهاجرين، وقد سبق أن أغلقت كل منافذها الحدودية البرية وتحكمت بصورة قوية في حركة الحاملين لتأشيرة شينغن. وطبعاً فإن عملية باريس ستعيد إلى طاولة النقاشات الأوروبية مسألة تأشيرة شينغن وكيفية إعادة النظر فيها. وقد أكد برنار كازنوف وزير الداخلية الفرنسية أن اجتماع وزراء الداخلية والعدل الأوروبيين المقرر يوم غد (الجمعة)، سيبحث هذه المسائل. وستسعى فرنسا الجريحة إلى فرض منطقها، على بقية المجموعة الأوروبية، ومن أهم القرارات المرتقبة التشدد في حرية التنقل داخل الفضاء الأوروبي وخاصة من ذوي الأصول غير الأوروبية.
من الواضح أن النزعات اليمينية المتطرفة تتصاعد في مثل هذه الحالات، وفي فرنسا تحديداً حيث يقدر عدد المهاجرين بنحو سبعة ملايين، فإنّ أوضاعهم، حتى وإن كانت قانونية ستشهد الكثير من الصعوبات، خاصة أن اليمين الفرنسي يحشد المزيد من الرأي العام المناهض لوجود أجانب على الأرض الفرنسية. ويتوقع أن تزداد عمليات الاعتداء على مصالح الأجانب من قبل الحركات اليمينية المتطرفة في كامل أوروبا. وستشكل هذه القوى أدوات ضغط على الحكومات الأوروبية، حتى تراجع مواقفها من مسألة استقبال اللاجئين السوريين، خاصة أن كل المؤشرات تدل على أن منفذي عملية باريس، قد أتوا من سوريا. المستشارة الألمانية قالت إنه لا يجب وضع الجميع في سلة واحدة واعتبرت قضية اللاجئين هي قضية إنسانية بحتة، و يجب عدم الخلط بينها وبين أفعال إجرامية ارتكبها مجرمون.
باريس تعيش خريفاً حزيناً، ولكنه ليس أكثر حزناً مما تعيشه الدول العربية منذ ما يزيد على الخمس سنوات، نتيجة ما يعرف بثورات «الربيع العربي». إنه خريف عالمي ينشر الخراب والموت في كل مكان. وما مسؤولية القوى العظمى اليوم سوى وضع حدّ ولو بالقوة لهذه الجماعات الإجرامية. من ضمن ضحايا اعتداءات باريس هناك ما يقارب عشرين أجنبياً من أصول عربية وإفريقية ماتوا دون ذنب ارتكبوه، ومثلهم سقط عشرات الفرنسيين، دون أي ذنب، وقبلهم مات أكثر من مئتي روسي في صحراء سيناء، ولا ذنب لهم، وفي بيروت سقط العشرات وفي تونس كذلك وكلهم أبرياء. هي إذاً حرب ضد الحياة، واستهداف باريس، هو استهداف لكل قيم الحياة والإنسانية جمعاء. مسلسل الحزن طويل، إن لم يتم اقتلاع الإرهاب من جذوره هذه المرة.

 

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى