خريف العام 2010، دق جرس الإنذار عميد الدبلوماسية العربية الأمير الراحل سعود الفيصل خلال أعمال القمة العربية في سرت. بكلام لا لبس فيه قال الفيصل إن «غياب الدور العربي الفاعل والمؤثر قد خلق فراغًا استراتيجيًا يتم استغلاله من قبل الكثير من الدول المجاورة».
كان هذا قبل أسابيع من اندلاع «الربيع العربي» من تونس، والبقية تعرفونها. الفراغ الاستراتيجي الذي حذر منه الفيصل هو الفراغ الذي يملأه «داعش» في العراق وسوريا (وسيناء وليبيا)، والميليشيات الشيعية التي تدعمها وتديرها طهران تحت عنوان مكافحة الإرهاب.
هذا السياق الفراغي، الممتد على طول سنوات خمس، أعلنت توقفه النهائي والحاسم زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز إلى القاهرة، بما هي زيارة إعادة إنتاج التوازن إلى هذه البقعة من العالم.
كانت الصحوة السعودية في اليمن هي الشرارة الأولى لصحوة عربية تقودها المملكة، لإقامة توازن أمني في مواجهة تمادي الاختراق الإيراني عبر الميليشيات الحوثية، على حدود المملكة وفي قلب الخليج.
زيارة الأمير محمد إلى القاهرة، ممثلاً الخيارات الاستراتيجية لبلاده، ذهبت بهذه الصحوة إلى مستويات جديدة تتجاوز موجبات الضغط الأمني المباشر في اليمن إلى قرار حاسم بإعادة هندسة البنيان الاستراتيجي العربي الذي لا يقوم قيامة حقيقية بغير الالتقاء السعودي المصري.
السعودية هي الثقل النفطي والمالي والعسكري والحضور الدولي سياسيًا ودبلوماسيًا، ومصر هي العدد والمدد والعنوان الأصيل للعروبة السياسية، كدولة أمة ناجزة تامة بإمكانات كامنة لا حدود لها.
وقبل هذا وذاك، المملكة هي مكة والمدينة، ومصر هي الأزهر، عنوانا الإسلام كمهد وكمؤسسة، وهذا ليس تفصيلاً.
فإعلان القاهرة وإن لم يتضمن في بنوده الستة إشارة محددة إلى مكافحة الإرهاب، إلا أن خلاصة البيان التي نصت على «العمل معًا من أجل تحقيق الأمن القومي العربي والإسلامي» واضحة في مراميها أكان لجهة محاربة الإرهاب أم مواجهة الاختراقات الخارجية للدول والمجتمعات العربية. كما أن البند الخامس في الإعلان الذي ينص على «تكثيف التعاون السياسي والثقافي والإعلامي بين البلدين لتحقيق الأهداف المرجوة في ضوء المصلحة المشتركة للبلدين والشعبين الشقيقين، ومواجهة التحديات والأخطار التي تفرضها المرحلة الراهنة» ينطوي ضمنًا على تعيين أولوية مكافحة الإرهاب الذي يشكل اليوم تحديًا سياسيًا وثقافيًا وإعلاميًا ورأس حربة التحديات والمخاطر راهنًا.
وهنا تبرز أهمية ثنائية «مكة – الأزهر» بوصفها القوة الرافعة لمشروع ثقافي إعلامي وسياسي لتجفيف منابع الإرهاب وتنقية الإسلام من القراءات والنصوص المؤسسة لفقه الجريمة كما لمعالجة أسباب الشقاق المذهبي الذي تستغله إيران في سياسة الاختراق السياسي والمجتمعي والأمني في الدول العربية. وتقع على عاتق هذا التحالف بين «مكة والأزهر» مهمة الإطلاق الجاد لما يسميه وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق «الشجاعة الفقهية» لمواجهة المرتكزات النصية والفقهية للإرهاب والانتصار عليه بتجريده أولاً من أي مشروعية إسلامية لا يزال يحسن التلاعب والتحايل بها على ذوي العقول والقلوب الضعيفة.
ليس خافيًا أن إيران ما بعد النووي، تستشعر النزيف الحاصل في قدرتها التعبوية حول عنواني مقارعة الاستكبار العالمي والصهيونية. وهي تجد أن مكافحة الإرهاب باتت مرتكز الوظيفة الإيرانية الجديدة في الإقليم، لتبرير تدخلاتها العسكرية واختراقاتها الأمنية والسياسية كما هو حاصل في سوريا والعراق ولبنان. وبالتالي هي صاحبة مصلحة في دوام الأسباب المنتجة للإرهاب ولوظيفتها في مكافحته تاليًا.
وعليه فإن مكافحة الإرهاب، بالشكل الثقافي، إلى جانب مكافحته أمنيًا وعسكريًا وتنمويًا، يتجاوز كونه حاجة لسلامة مجتمعات دول المنطقة وحصانة هوياتها الوطنية، بل هو أيضًا مرتكز أساسي في المواجهة مع إيران التي تقود مشروعًا مذهبيًا تفكيكيًا للمنطقة ودولها ومجتمعاتها. ما يعني أن إعلان القاهرة، وكي يكون إعلان استعادة التوازن في مواجهة إيران، عليه أن يكون إعلان استعادة التوازن إلى الهوية الوطنية العربية. وهذا يفتح مزدوجين لملاحظة لا بد منها مصريًا.
لاحظت في كثير من الإعلام المصري، ولأسباب قد تكون مفهومة، شهية لتوظيف إعلان القاهرة وزيارة الأمير محمد بن سلمان في سياقات مختلفة وبعيدة عن سياقها الحقيقي وكأنها تغليب لفريق على فريق أو تصحيح لموقف سعودي ما لا سيما استقبال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل، كما ورد في عشرات المقالات. إنه من الظلم لمصر قبل السعودية تبديد زيارة استراتيجية بهذا الحجم على مستوى النهوض بمشروع عربي جديد، عبر تضييق الحسابات إلى هذا الحد من قبل نخبة صناعة الرأي العام في مصر.
فالواقع الاستراتيجي العربي يتحرك في حقول من التجاذبات التي لا تترك مجالاً لترف الخيارات بالأبيض أو الأسود. وهو ما يلقي الضوء عليه الحركة السياسية للرياض وخوضها تجربة معقدة في إدارة التناقضات، كنمو العلاقة التركية السعودية رغم التوتر بين القاهرة وأنقرة ومحاولات الرياض إصلاح البين بينهما من دون توفيق حتى الآن، وتنمية العلاقات الروسية السعودية في لحظة الحوار الاستراتيجي مع واشنطن منذ كامب ديفيد وحتى لقاءات الدوحة وبعدها.
إعلان القاهرة، خطوة استراتيجية عربية في الاتجاه الصحيح لإعادة إنتاج التوازن إلى العالم العربي، وهو ما لا يمكن حصوله بغير إعادة الاعتبار لتحصين الهويات الوطنية العربية بما يتطلبه ذلك من مصالحات ضرورية، تحمي الدول القائمة وتسرع إعادة تكوين السلطة والدول في البلاد المنكوبة كاليمن وسوريا وليبيا، بعيدًا عن عقلية الإقصاء والثأر.
تجاوزت العلاقات السعودية المصرية ما هو أعقد من ملف الإخوان. حين اندلعت في اليمن حرب بالوكالة بين جمال عبد الناصر والرياض لم يتصور أحد أن تكون المملكة أكبر داعم للقاهرة في مؤتمر الخرطوم بعد هزيمة 1967، وأن تكون لاحقًا الرافعة السياسية والعسكرية لـ«حرب أكتوبر 73». وحين وقع الشقاق المصري العربي مع أنور السادات عام 1979 بعد اتفاق كامب ديفيد مع إسرائيل، تصدرت السعودية الجهود لإعادة العلاقات العربية مع مصر بعد رحيل السادات، وهذا ما كان.
إنها حقائق الجغرافيا ومعطيات المصير المشترك. هذا معنى ما ينبغي البناء عليه في زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى أرض الكنانة.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط